عن المستبدّ والتاريخ والدم
عدنان الباجة جي أحد كبار رجال الدولة السابقين في العراق، لعب دورًا كبيرًا في عراق ما بعد صدّام حسين. وقد نشر قبل وفاته في 2019 مذكّرات لم تثر اهتمامًا إعلاميًا كبيرًا حتى تناولتها قناة فضائية، وأحد هذه التقارير الإخبارية نشرته وسائل إعلام عديدة، وتضمّن حوارًا بين الباجة جي وصدّام. الشهادة عنوانها: "عدنان الباجه جي.. رجل بين قرنين"، وفيها أنه قُبض على صدّام عندما كان الباجه جي رئيسًا لمجلس الحكم العراقي بالوكالة. وفي مقابلة بينهما، قال الباجة جي لصدّام إنه جاء مع الأميركيين لبناء حكم ديمقراطي. فقال صدّام: "كان حكمنا ديمقراطيًا"، وردّ الباجة جي: "لا لم يكن حكمكم ديمقراطيًا، بل كان استبداديًا" ثم تابع الباجة جي: "عندي سؤال يشغلني منذ سنوات ... ... لماذا لم تنسحب من الكويت عندما كان بمقدوركم فعل ذلك؟"، فأجاب صدّام: "كنت على استعداد للانسحاب، لكنني اشترطت حل قضايا أخرى في المنطقة"، فقال الباجة جي: "أنت تعرف أن ذلك كان يعدّ من المطالب التعجيزية".. فردّ صدّام: "التاريخ هو الذي سيحكم". وردًا على التساؤل بشأن الطبيعة الاستبدادية لحكمه قال صدّام: "العراق يحتاج إلى حاكم عادل وحازم"، فقال الباجة جي: "لم تكن حاكما عادلًا بلا شك، وكان حكمكم مسؤولًا عن قتل مئات الآلاف من العراقيين"، فأنهى صدّام الحديث مكررًا: "التاريخ هو الذي سيحكم ويقرّر".
يستحق هذا الحوار بالفعل أن يكون موضوع اهتمام إعلامي بعد وفاة طرفيه، مليء بما يستحق التأمل والتعليق، وبخاصة أن أسئلته ما تزال ماثلة في الراهن العربي، وبإمكان قارئه أن يضع مكان اسم الباجة جي أسماء عشرات السائلين، وأن يضع مكان اسم صدّام حسين أسماء مستبدّين راحلين وأحياء عديدين دونما حاجة إلى تغيير الكثير في نص الحوار.
إذا وجد المستبد/ السفاح نفسه في مواجهة الحقيقة، رد على أدلة إدانته بـ "خطاب إرجاء سياسي"
والأهم في الحوار، في تقديري، هذا التبجح اللاعقلاني، حتى اللحظة الأخيرة، والكراهية العميقة للحقيقة التي تجعل المستبدّ/ السفاح، في حالات كثيرة في الواقع العربي المعاصر، لا يقبل لحظة مواجهة مع الحقيقة، فيكون حال إمساكه بالسلطة "محتجبًا" بدوائر أمنية مغلقة بإحكام (تستلهم عزلة الحسن بن الصباح زعيم "الحشاشين" في قلعته المنيعة "أَلمَوت") مستمتعًا بقدرته التامة على "الإملاء".
وإذا وجد المستبد/ السفاح نفسه في مواجهة الحقيقة (مجرّدًا من السلطة) كما هو الحال في المثال النادر الذي نحن بصدده، رد على أدلة إدانته، بالضبط كما فعل صدّام حسين، بـ "خطاب إرجاء سياسي"، يحيل فيه على التاريخ، وحكم التاريخ، في إصرار مرضي على أنه فوق معايير التقييم، وعلى أنه جزءٌ من التاريخ يجب إرجاء الحكم عليه طويلًا، وتأمل قول إبليس لربّ العزة في الحوار الذي رواه القرآن: "قال أنظرني إلى يوم يبعثون". هذا فضلًا عن "إعادة تعريف الظواهر"، أيضًا كما فعل إبليس عندما أعاد تعريف "الشجرة المحرّمة" ليغوي آدم بالأكل منها، وقد أطلق عليها "شجرة الخلد"، ونسب إليها ما يشاء، مبتدعًا تعريفًا مضللًا لكُنه الشجرة وصفاتها. وفي هذا الحوار، أعاد صدّام حسين تعريف الديمقراطية والعدل والحزم، واعتبر أن الحكم عليه "ممتنع" إلا على يد "التاريخ". ومستبدّون سفاحون كثيرون بنوا لأنفسهم "كهوف أوهام" بشأن شعوبهم، تجعلهم أبعد ما يكون عن احتمال الندم على جرم (أي جرم)، في إنكارٍ تام للمعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية، والعدالة.
مسار تغيير الواقع العربي على نحو أكثر إنصافًا لشعوبه يمر عبر تغيير معادلات القوة الشاملة على المدى البعيد
ولكن أحد الدروس المهمة في الحوار كذلك حجم إصرار الغرب على أن يعتبر بعض القضايا تشكل مرتكزات لاستقرار في المنطقة من وجهة نظره، وأن محاولة تغيير معادلتها عبر تهديد مصالحه لن تفلح، وبالتالي، فإن مسار تغيير الواقع العربي على نحو أكثر إنصافًا لشعوبه يمر عبر تغيير معادلات القوة الشاملة على المدى البعيد، لا عبر "مغامرة" هوليوودية تنتهي بتغيير مسار التاريخ في صفقة "تبادل رهائن": الكويت (أو غيرها) مقابل كذا أو كذا ....!
ومن أعاجيب واقعنا العربي أن معظم من استباحوا ما لا تجوز استباحته أقسموا بأغلظ الأيْمان أن ما اقترفوه كان لإنقاذ "الدولة الوطنية"، بينما القسم الأكبر من مفردات عالمهم، فكرًا وسلوكًا، يُنكر فكرة الدولة تمامًا: البنية والوسائل والأهداف، ومعظمهم ينظر إلى العالم بمنظور مزدوج المصدر: إبليس وزعيم الحشاشين.