عن الموقف المصري من غزّة
يحيّرنا الموقف المصري من الحروب الإسرائيلية المتكرّرة على الفلسطينيين أهالي قطاع غزّة على مدار السنوات العشر الماضية، فلا هو موقف براغماتي يمارس السياسة في إطار فن الممكن بوصفه مهارة سياسية، يقدّم تنازلات هنا أو هناك للحصول على أفضل النتائج وفق معادلة موازين القوى القائمة على المستويين الإقليمي والدولي، ولا هو موقف محايد (وإن كان ذلك مرفوضا) يحافظ على المصالح الإسرائيلية بقدر ما يحافظ على المصالح الفلسطينية.
يندهش المرء حين يسمع أصواتا تدافع عن موقف النظام المصري مما يجري في قطاع غزّة، فمطلب النظام بوقف العدوان الإسرائيلي، والفتح الجزئي لمعبر رفح، يُنظر لهما قوة وصلابة تدعمان غزّة، ثم يزداد التهليل للنظام لدى بعضهم عندما يرفض الرئيس عبد الفتاح السيسي الاستجابة لمطالب إسرائيلية ـ أميركية بتهجير أهالي القطاع إلى سيناء، للحيلولة دون خسارة غزّة أرضا فلسطينية لصالح الإسرائيليين، كما جرى ويجري في مناطق أخرى من فلسطين. قد لا تكون هذه الأصوات مثار استغرابٍ لدى بعضهم في ظل حالة الانهيار التي تعيشها الأمة العربية، وحالة الذلّة التي تعيشها معظم الأنظمة العربية، غير أن الحالتين المصرية والإماراتية، وحالة النظام السوري، تستدعي التوقّف.
تتعلق المسألة، بالنسبة للنظام المصري، فقط بوقف عملية الإبادة الجماعية بحقّ أهالي قطاع غزّة. وبهذا، يستوي الموقف المصري مع أي موقف دولي آخر غير معني بالقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني على المستوى السياسي، وإنْ لا يستويان على المستوى الأخلاقي، فمواقف بعض الدول في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا المندّدة بالحرب الإسرائيلية أخلاقية، في حين أن الموقف المصري غير أخلاقي حين يجري الاكتفاء بالتنديد في العدوان الإسرائيلي، فقضية فلسطين والشعب الفلسطيني ترتبط وجوديا بالشعب العربي، وخصوصا مصر، ليس فقط بسبب تماسّها الجغرافي، بل أيضا باعتبارها أقوى دولة عربية، وما هو مطلوب منها لا يتساوى مع ما هو مطلوب من البحرين أو موريتانيا أو الجزائر أو كولومبيا أو الهند... إلخ.
لم يعارض الرئيس عبد الفتاح السيسي مبدأ تهجير الفلسطينيين من غزّة
وإذا ما ابتعدنا عن الموقف المصري المندّد بالحرب الإسرائيلية، مثل مواقف دول كثيرة، بعيدة وغير معنية مباشرة بالقضية الفلسطينية، سنرى الموقف المصري على حقيقته: لم يعارض الرئيس عبد الفتاح السيسي مبدأ تهجير الفلسطينيين من غزّة، فقد اقترح، في تصريحه، في المؤتمر الصحافي مع المستشار الألماني أولاف شولتز، تهجيرهم إلى النقب، حتى تتمكن إسرائيل من تصفية المقاومة في غزّة، ثم إعادتهم، إذا شاءت، في وقت لاحق إلى القطاع، بما يتناسب مع المصلحة الأمنية الإسرائيلية. وهذا يعني أن القيادة المصرية لا تمانع بتهجير أهالي غزّة إلى صحراء النقب إذا كان الهدف تصفية المقاومة الفلسطينية، غير أن هذا الموقف ينتقل إلى معارضة فكرة التهجير إذا ارتبطت بسيناء، أي نقل الفلسطينيين إلى سيناء وفق المطلب الإسرائيلي ـ الأميركي، لأن عملية نقل الفلسطينيين إلى سيناء تعني، وفق القيادة المصرية، فتح جبهة مقاومة في الأراضي المصرية، وهذا خطّ أحمر، حيث لا يُسمح بأن تشكل الأرض المصرية تهديدا لإسرائيل.
ثم سرعان ما انتبهت القيادة المصرية إلى خطأ هذا الذي صدر عنها، فعدّلت خطابها بالقول إن تهجير الفلسطينيين إلى خارج فلسطين يعني لاحقا تهجير أهالي الضفة الغربية إلى الأردن، بما يؤدّي إلى تصفية القضية الفلسطينية.
نقف مذهولين أمام حالة العجز المصرية في ممارسة سيادتها على معبر رفح الذي يربط مصر بغزّة فقط
أكثر من ذلك، نقف مذهولين أمام حالة العجز المصرية في ممارسة سيادتها على معبر رفح الذي يربط مصر بغزّة فقط، بعيدا عن إسرائيل، حيث يتوقف دخول المساعدات إلى قطاع غزّة وإخراج جرحى من القطاع إلى مصر على موافقة إسرائيل. ويزداد ذهولنا حين نطالع بيانا للمتحدّث باسم وزارة الخارجية المصرية أحمد أبو زيد يقول إن مصر ليست مسؤولة عن إغلاق معبر رفح بينها وبين قطاع غزّة، وإنما إسرائيل التي تعرقل عملية نقل المساعدات إلى القطاع، بـ"مشكلاتٍ لوجستية رئيسية فرضها الجانب الإسرائيلي". وذلك بتشدّدٍ كبيرٍ منه "في إجراءات التفتيش، بل ورفض دخول العديد من المساعدات، لاعتباراتٍ سياسيةٍ وادّعاءاتٍ أمنيةٍ مختلفة". لا يمكن تفسير الموقف المصري هذا إلا ضمن رؤية محدّدة مسبقا بجعل مصر جزءا من المنظومة الاستراتيجية الإسرائيلية من جهة، والقضاء على أي حركة أو جهة ترتبط بالإخوان المسلمين من جهة أخرى، وهو مسار بدأ بوضوح شديد منذ تسلم السيسي السلطة.
مرّت السياسة المصرية تجاه القضية الفلسطينية بثلاث مراحل: الأولى منذ اتفاقية كامب ديفيد وحتى ثورة يناير/ كانون الثاني عام 2011، وقد هيمن فيها موقف مصري محايد من الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، لكن هذا الحياد تحول إلى حياد سلبي بالنسبة للفلسطينيين في ظل اختلال موازين القوى لصالح إسرائيل، فلم تستطع مصر إجبار إسرائيل على وقف الاستيطان وإنهاء الحصار على غزّة والانخراط في عملية سلام حقيقية، كما لم تجد حرجا في أن تعلن وزيرة الخارجية السابقة تسيفي ليفني، عام 2009، الحرب على غزة من قلب القاهرة، حين تعهدت بتغيير الأوضاع في غزة. ولم تدم المرحلة الثانية سوى مدة قليلة، وهي مدة حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وفي هذه المرحلة انتقلت مصر بشكل واضح وعلني إلى دعم غزّة، ضاربة عرض الحائط بعلاقة مصر بإسرائيل والولايات المتحدة. أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت عام 2014، في تحالف مصري ـ إسرائيلي لم تعرفه المرحلة الأولى من العلاقة بين الجانبين.