عن تراجع "حماس" في ملف المصالحة الفلسطينية
تراجعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الأسبوع الماضي، بشكل مفاجئ، في ملف المصالحة الفلسطينية، في موافقتها على إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة بالتتابع، ضمن سقف زمني محدد، بعدما كانت تصرّ على التزامن، بمعنى إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني في توقيت واحد. جاء هذا التراجع مفاجئاً ولافتاً في الشكل والمضمون، بمعنى أنه لم يكن عبر القنوات الحركية التي تولت ملف المصالحة، كذلك إن التوضيح الأبرز جاء من الضفة الغربية، وليس من غزة التي تولى قادة الحركة فيها ملف العلاقة مع حركة فتح والسلطة الفلسطينية سنوات.
في الشكل، جاء تراجع "حماس" عبر رسالة من رئيس المكتب السياسي، إسماعيل هنية، إلى الرئيس محمود عباس، نقلها عضو اللجنة المركزية في حركة فتح، المكلف ملف العلاقة والحوار مع "حماس"، جبريل الرجوب، بينما كان المنطقي إرسال رسالة الحركة عبر القنوات المعتادة، من خلال نائب رئيس المكتب السياسي، صالح العاروري، المكلف ملف المصالحة والحوار مع "فتح". لم يحدث هذا، ما يعني نقل مستوى الحوار إلى درجة أعلى، وإبعاد العاروي عن الملف، ولو مؤقتاً، بعدما أصرّ شخصياً في آخر جولة حوار بالقاهرة (منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2020) على التزامن في الانتخابات، لعدم الثقة بنيات الرئيس عباس، بإجراء الانتخابات الرئاسية بعد التشريعية، واعتبار عودة السلطة إلى التنسيق الأمني مع إسرائيل بمثابة تفضيل للعلاقة مع الأخيرة على المضي في عملية المصالحة، علماً بأن العاروري محسوب على التيار العسكري المتشدّد في حركة حماس، وقريب جداً من قائدها في غزة ورجلها القوي والمتنفذ، يحيى السنوار.
شكلياً أيضاً، بدا لافتاً أن يأتي التصريح والشرح والتبرير الأولى لمرونة الحركة من قيادة حماس في الضفة الغربية عبر القيادي والوزير السابق وصفي كبها (ثم من قيادة الخارج عبر ماهر عبيد)، وليس من قيادة الحركة في غزة التي تولت في السنوات الأخيرة مباشرةً ملف الحوار والمصالحة مع "فتح" والسلطة في رام الله، علماً أنها، أي قيادة الضفة الغربية، كانت دوماً أكثر انفتاحاً وحماسةً لإنهاء الانقسام.
"حماس" حصلت على ضمانات لإجراء الانتخابات بالتتابع والترابط ضمن سقف زمني محدد بستة أشهر
وفي المضمون، وصف كبها، كما مصادر أخرى في "حماس"، الموقف الجديد بأنه مرن، في تلطيف لحقيقة ما جرى، باعتباره تراجعاً وتنازلاً عن مواقف للحركة سابقة، لكنه أفاد، في المقابل، بأن "حماس" حصلت على ضمانات لإجراء الانتخابات بالتتابع والترابط ضمن سقف زمني محدد بستة أشهر، وبشكل عادل ونزيه. وتحدث كبها تحديداً عن خمس دول، مصر وقطر وتركيا والأردن وروسيا، قدمت الضمانات لحركة حماس للعودة عن موقفها، وهي الدول نفسها التي شكرها محمود عباس في سياق قبوله رسالة إسماعيل هنية، وإبداء الاستعداد للعمل في ضوئها، من أجل إنهاء الانقسام وتحقيق الشراكة وبناء الوحدة الوطنية.
ويرى كاتب هذه السطور قصة الضمانات غير دقيقة. ببساطة لأنه لا علاقة، ولا حتى اتصالات، بين حركة حماس والأردن في الفترة الأخيرة، علماً أن عمّان رفضت استقبال إسماعيل هنية ضمن جولاته الخارجية، على غير ما فعلت الدول الأربع الأخرى. وقصة الضمانات إن حدثت، على أهميتها، فرعية وجانبية، وليست رئيسية في دوافع مرونة "حماس" الجديدة، وتراجعها وتنازلها عن مواقفها وشروطها السابقة. الحركة هي التي تراجعت عن مواقفها أولاً، وطلبت ضمانات، أو دعماً من ثلاث دول فقط شكرها إسماعيل هنية علناً (مصر وقطر وتركيا)، تشجيعاً لها للسير في خيارها العلن أخيراً.
وبناءً عليه، لم يكن مفاجئاً أن تنقل وكالة الأناضول (2 يناير/ كانون الثاني الحالي) عن مصادر قيادية أخرى إشارتها إلى دوافع المرونة الحمساوية وخلفياتها، وهي جوهرية وسياسية بامتياز، وتتمثل بذهاب إسرائيل إلى انتخاباتٍ مبكرةٍ أخرى في مارس/ آذار المقبل ستكون الرابعة في عامين، إضافة إلى فوز الديمقراطي جو بايدن في انتخابات الرئاسة الأميركية، وتوليه منصبه رسمياً في 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، ولكن من دون التطرّق إلى أسباب أخرى مركزية أيضاً، تتعلق بالأوضاع في غزة، كما داخل حركة حماس نفسها، وتوازنات القوى فيها، على أعتاب المرحلة الحاسمة من الدورة الانتخابية العادية التي ستنتهي بعد أسابيع بانتخاب مكتب سياسي مركزي ورئيس له يعتبر بمثابة القائد العام للحركة.
الانتخابات المبكرة تعني أيضاً صعوبة التوصل إلى صفقة تبادل أسرى بين "حماس" وإسرائيل في المدى المنظور
والانتخابات الإسرائيلية المبكرة تعني صعوبة، وحتى استحالة، تنفيذ تفاهمات التهدئة بين حركة حماس وإسرائيل، وبالتالي عدم وجود فرصة جدّية لتحسين الأوضاع الكارثية في غزة، خصوصاً أن لا تشكيل لحكومة إسرائيلية جديدة قبل خمسة أشهر أو ستة، وهي تحتاج إلى شهور أخرى لبلورة سياساتها، ما يعني أن الواقع الراهن والصعب في غزة سيستمر سنة على الأقل. والانتخابات المبكرة تعني أيضاً صعوبة التوصل إلى صفقة تبادل أسرى بين "حماس" وإسرائيل في المدى المنظور، إثر تقديم الحكومة الإسرائيلية عروضاً دعائية، تستند أساساً إلى قاعدة الأسرى مقابل الغذاء والدواء لغزة، وهي قاعدة لا يمكن أن تقبل بها الحركة بأي حال، علماً أن صفقة كهذه، في حالة حدوثها، كانت ستصب في خانة قيادة الحركة الحالية من جهة. وتؤدّي، من جهة أخرى، إلى تخفيف جدي للحصار وتحسين الأوضاع المأساوية في غزة.
والسبب المتعلق بالانتخابات الأميركية مهم أيضاً، ويعني أن أحوال السلطة في رام الله ستتحسن سياسياً واقتصادياً، مع استئناف العلاقة مع الإدارة الأميركية الجديدة. ومن ناحية أخرى، سيزاح الخيار العسكري عن الطاولة، فلسطينياً وإقليمياً، مع استمرار الواقع الراهن في غزة، وسعي الوسطاء إلى تقديم حلول مؤقتة وإسعافية، لمنع انفجار الأوضاع فيها، بما يتناقض مع أجواء التهدئة العامة في المنطقة.
المعطيات السابقة وجيهة طبعاً، وتقدّم تفسيراً معقولاً لتراجع قيادة "حماس"، وسعيها إلى إنهاء الانقسام وإنجاز المصالحة، وبالتالي رفع الحصار أو تخفيفه بالأدوات المتاحة، واستثمار ذلك في الانتخابات الداخلية في الحركة، ولكن يجب الانتباه إلى عدة نقاط مهمة أخرى. حيث إن الحركة كانت قد وافقت فعلاً في حوار إسطنبول مع حركة فتح على تتابع الانتخابات، قبل أن تتراجع تحت ضغط الخلافات الداخلية، خصوصاً مع إصرار قيادة غزة على الذهاب إلى انتخاباتٍ متزامنةٍ، لعدم الثقة بالرئيس عباس، ولعدم وجود ضمانات باحترام نتائج الانتخابات، عوضاً عن المضي في حزمتها الكاملة، وصولاً إلى انتخابات المجلس الوطني التي ستسمح بإعادة بناء ديمقراطية شفافة ونزيهة وعادلة لمنظمة التحرير، كي تمثّل الكل الفلسطيني.
الأمور ستسير، أقله في المدى المنظور باتجاه إشراك "حماس" ضمن الواقع الراهن الذي فرضه عباس. وثمّة قبول ضمني منها بذلك
ولا تعنى المرونة المستجدّة إلقاء "حماس" الكرة إلى ملعب محمود عباس، بل استعدادها للعب، تكتيكياً، وفق قواعد وخطوط اللعب التي حدّدها عباس، مع محاولة تعديلها، وتحسين الشروط لتخفيف الأضرار، وأقلّه رفع العقوبات عن غزة التي وصلت الأوضاع فيها إلى حافّة الانهيار، وخصوصاً في غضون جائحة كورونا، وتعزيز مكانة الحركة المركزية في الساحة السياسية، مع الانتباه إلى أن المرونة الجديدة أتت بعد المناورة العسكرية التي أجريت أخيراً (الركن الشديد) التي كانت بمثابة استعراض للقوة من الحركة في غزة.
عموماً، هي خطوة قد تؤدّي إلى إنهاء الانقسام على المدى الطويل، غير أن الأمور ستسير، أقله في المدى المنظور باتجاه إشراك "حماس" ضمن الواقع الراهن الذي فرضه عباس. وثمّة قبول ضمني منها بذلك، ولو على مضض، بمعنى أن المرونة المتحدث عنها لن توقف التنسيق الأمني، ولن تمنع سعي السلطة الوطنية إلى العودة إلى المفاوضات مع إسرائيل، بإطار دولي أو حتى ثنائي.
غير أن النقطة المضيئة في ما سبق كله تتمثل بتأكيد حقيقة وجود الكرة في الملعب الفلسطيني، لجهة انتهاء دور الوسطاء والرعاة في عملية المصالحة، حتى مع الحديث عن تقديم أطراف خارجية ضماناتٍ لإنجاح المسار المدار فلسطينياً بشكل أساسي، مع الأمل طبعاً بانطلاق سيرورةٍ ديمقراطيةٍ، تسمح بإعادة بناء المؤسسات بالتدريج، والاقتناع بإدارة الصراع مع إسرائيل، وفق المقاومة السلمية بأشكالها كافة، بما فيها الدبلوماسية والقانونية والشعبية. وطبعاً مثلما توافق لقاء الأمناء العامين للفصائل في بيروت (سبتمبر/ أيلول 2020) ونصّت وثيقة الوفاق الوطني (الموقعة في يونيو/ حزيران 2006) التي كانت وما زالت تمثل أساساً صالحاً للعمل الفلسطيني المشترك.