عن جدل الداخل والخارج
لسنواتٍ عديدة مقبلة، سوف يستمر البحث في الأسباب التي أدّت إلى فشل ثورات الربيع العربي أو تعثّرها، وجديدها في تونس حيث تستمر محاولات الرئيس قيس سعيّد لحرف المسار الديمقراطي في البلاد، وإعادة إنتاج نظام استبدادي. ويعدّ فهم هذه الأسباب أساسياً إذا كان للتحوّل الديمقراطي أن ينجح في مرحلة ما في المنطقة العربية. عوامل عديدة تضافرت وصولاً إلى النتيجة الماثلة أمامنا اليوم، منها ما هو داخلي ومنها ما هو خارجي. وعموماً، هناك مدرستان في فهم الثورات ومساراتها، الأولى محلية، تتمحور حول الدولة وعلاقتها بالمجتمع، فيما تنظر الثانية لها أكثر من زاوية العلاقة مع الخارج ودور النظامين الإقليمي والدولي في تحديد مصيرها واتجاهاتها. لكن، في جميع الأحوال، ومهما كانت المقاربة المستخدمة، الأكيد أن الثورة ظاهرة محلية، خاصة بالدول، تنشأ نتيجة عوامل داخلية اجتماعية واقتصادية في الأساس (ظلم، فقر، فساد، استبداد، تهميش، واقصاء، بطالة خاصة بين فئات الشباب - انسداد أفق سياسي ... إلخ). طبعاً، يصعب في عالم اليوم تعريف ما هو محلي وما هو خارجي أو الفصل بينهما، فالظروف الإقليمية والدولية تؤدّي أدواراً مهمة في إطلاق الثورات، كما الظروف المحلية. من ذلك مثلاً أن أسعار السلع والمواد الاستهلاكية الأساسية تحدّد اليوم في إطار نظام اقتصادي معولم، يتأثر بعوامل جيوسياسية وبيئية لا يملك أحد السيطرة عليها (النفط والمعادن والسلع الاستهلاكية وغيرها)، وهي تؤثر بدورها في الأوضاع الاقتصادية للدول والمجتمعات، شأن الحرب في أوكرانيا مثلاً أو التغير المناخي، والتي بسببها ارتفعت أسعار الطاقة والحبوب، ما دفع دولاً عديدة إلى حافة أزمات، يرجح أن تنتج عنها اضطرابات وثورات. وتاريخياً، لعبت أزمات مالية واقتصادية كبرى أدواراً مهمة في حصول تغييرات جوهرية داخل الدول، فقد أسهمت أزمة 1929 مثلاً، وفرض الولايات المتحدة إجراءات حمائية على أثرها، إسهاماً رئيساً في وصول النازية إلى السلطة في ألمانيا عام 1933. ويذهب باحثون إلى القول إن أزمة 2008 المالية العالمية كانت من أسباب اندلاع ثورات الربيع العربي. فوق ذلك، ما إن تندلع الثورة التي تعد ظاهرة محلية بالأساس حتى تتوقف عن كونها كذلك، فمهما غرقت الثورات في محليتها ودوافع قيامها، فإنها، في اللحظة التي تندلع فيها، لا تعود شأناً داخلياً بين حكومة ومعارضة أو نظام وشعب، أو مستبدّ ودعاة حرية، بل تتحوّل سريعاً إلى شأن إقليمي ودولي.
وتستجيب الدول، خصوصاً المجاورة، أو تلك التي يمكن أن تتأثر بالثورات، بسرعةٍ لأي اضطرابات داخلية في دولة أخرى، فالاحتجاجات "مُعدية"، ولها صفة الانتشار إلى دول أو مناطق شبيهة لجهة المؤسسات والتركيبة البشرية والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد تحوّل ميل الثورات إلى الانتشار إلى ما يشبه النمط (Pattern) في موجات التغيير الكبرى عبر التاريخ، كما في ثورات 1848 الأوروبية، حيث انطلقت الثورة في صقلية، وانتقلت إلى فرنسا ثم عمّت أوروبا، وكذلك ثورات 1989 التي بدأت في بولندا وانتقلت الى المجر، ومنها إلى بقية دول أوروبا الشرقية، وثورات 2011 العربية. ولا يقتصر تأثير الثورات على قابلية انتشارها، ذلك أنها أيضاً تؤثر في موازين القوى الإقليمية.
وبغض النظر عن الأوضاع الداخلية للدولة التي تتدخل، أو شكل نظام الحكم فيها، أو قربها وبعدها عن المكان محل الثورة، فان جميع الدول المتدخلة تسعى من خلال تدخلها في الشؤون الداخلية لدول أخرى تعاني من اضطراباتٍ أو تشهد ثورات إلى تحقيق الهدف نفسه، وهو زيادة أمنها وتقليل التهديدات التي يمكن أن تنشأ ضدها. وعليه، تمثل الثورات أو الاحتجاجات فرصة بالنسبة إلى بعض الدول لتعزيز أمنها وإضعاف خصومها، فيما تشكّل بالنسبة لدول أخرى خطراً تسعى إلى درئه، وفي الحالتين، تندفع إلى التدخل بشكل تلقائي.
لذلك، وفي بعض الحالات، تكون الطريقة الأفضل لفهم مسار الثورات والأزمات وتوقع اتجاهاتها، ليس من خلال النظر إلى الساحة المحلية أو الصراع الداخلي في الدولة محل الأزمة، بل إلى سياسات الدول الأجنبية ذات المصلحة، لأن ما يجري على الأرض يغدو مجرّد ترجمة لصراع الإرادات بين القوى المتدخلة، وهذا شأن ما يحصل في سورية واليمن وليبيا وغيرها.