عن حق العودة إلى جنة السيسي
وكأن مصر قضت على كل أمراضها، وحلّت كل مشكلاتها، ولم يبق لها إلا قضية طارق عبد الجابر مدخلا مبتذلا لمسألة الصحافيين والإعلاميين المعارضين لسلطة الانقلاب في الخارج.
في البدء، لا بد من التأكيد على أن حق السفر والعودة مكفول بالدستور والقانون لأي مواطن في أي دولة محترمة في العالم. وفي الحالة المصرية، من حق كل مصري في الخارج أن يعود إلى وطنه في الوقت الذي يحدّده، وليس بناءً على توصية من مثقف، أو متثاقف، فرح بلقاءٍ مع رأس النظام، أو استنادا إلى طلب استرحام أو وثيقة استعطاف، أو دراما استتابة ركيكة ومضحكة.
ينطبق ذلك على مراسل التلفزيون المصري وفضائية نجيب ساويرس، السابق، كما ينطبق على غيره ممّن "تتسلّى" الرئاسة المصرية ومثقفوها بقصتهم، في تكرارٍ كوميدي سخيف لما عُرف بقضايا "العائدين"، ومصدر السخف، هنا، أنهم يجترّون عناوين بليدة، يحاكون بها تلك العناوين التي عرفتها الصحافة الأمنية في التسعينات، مثل "العائدون من أفغانستان".
كون الموضوع يتحوّل إلى ملفٍّ رئاسي ساخن، فهذا يعني أن حضرات السادة الطغاة، وتوابعهم، منزعجون من أي صوتٍ في الخارج لا يردّد أناشيد الفاشية، ويعطي مؤشراً قوياً على أن انفجار "ميلودراما عبد الجابر" الذي يبكي حنيناً إلى "أيام الكنافة في كواليس فضائية ساويرس" في هذا التوقيت، ليس من قبيل المصادفات، بل تم وفقاً لسيناريو رديء لا يقنع طفلاً، قصدوا منه اصطياد هذه الحالة المصنوعة، وتعميمها على كل الإعلاميين في المهجر، الاختياري لبعضهم، والإجباري لآخرين، بحيث يصبح هناك، في نهاية المطاف، ملف ذو رنين وبريق اسمه "قضية التائبين عن المعارضة"، يختلط فيه الحابل بالنابل، الإعلامي الحقيقي والذي "جعلوه إعلامياً" رغم أنفه، ورغم أنف المهنة، مع الوضع في الاعتبار أن "سفر الخروج" منذ عقود طويلة ينبئنا بأنه دائما هناك نسبة للمكوّن الأمني في حالات الخروج، وضعت في غفلةٍ من المجموع، وتظل هذه النسبة في حالة كمون وخمول، حتى تنشط فجأةً محدثةً ضجيجاً، كما في حالة "تائب نجيب ساويرس".
القصة كلها أن نظام السيسي، بأمنييه وسياسييه ومثقفيه وإعلامييه، لا يريد أن يصدّق أن هناك من لا يستطيع التعايش مع كل هذا القبح الساكن في مقبرتهم السعيدة، ولا يقبل أن يخدع نفسه، ومن يصدّقونه من قراء ومشاهدين، بأن هذه هي مصر، كما يعرفها التاريخ والجغرافيا، وكما يراها المحبون الحقيقيون.
الحكاية أنهم لا يفهمون أن "الحظيرة" ليست إغراءً كبيراً لآخرين من دونهم. وبالتالي، لن يسيل لعابهم عندما يقرأون عناوين ضخمة في صحافة السيسي، تقول "رئاسة الجمهورية تبدأ ترتيبات عودة "التائبين" من قنوات الإخوان إلى مصر"، وتنقل عن "التائب الأول" أنه سيعود أول الشهر (إبريل) والنظام يمد يده للجميع.. وتعيد التأكيد على البيان رقم واحد، وفيه "السيسي أمر بعودته وملف الراغبين في العودة تتولاه الرئاسة".
مرة أخرى، لا مصادرة على حق أحد في اختيار قرار العودة، وقتما يشاء، وكيفما يشاء، حتى لو كانت هذه العودة على طريقة "مسحول اسطنبول التائب"، طمعا في "الكنافة"، أو خوفاً من "الهراوة"، أو طلبا للعفو والمغفرة من شياطين شيّدوا قصورا للاستبداد في المزارع، وجعلوا "السجن مطرح الجنينة"، وأطلقوا الكلاب في الشوارع، وأغلقوا الزنازين على كل من لا يخفض رأسه، وينحني لعاصفة القبح والرداءة.
لكن، حين تتحوّل المسألة إلى تجارة عاطفية رخيصة وابتزاز عاطفي مصنوع، بغية الوصول إلى مربط الفرس في الموضوع، وهو وصم المعارضة من الخارج بالخيانة، واعتبارها خطيئةً تستوجب تقديم "طلبات توبة" إلى "مصلحة العفو السيسية"، فهذا ما لا ينبغي السكوت عليه، أو إهماله، ومن أراد الحظيرة فهي له وهو لها، من دون أن ينثر رذاذ خسّته على آخرين، لا يستطيعون التصالح مع صنّاع المقتلة.
ويكفي هذه السلطة البليدة فخراً أن "حق العودة" بات متداولاً، للمرة الأولى في تاريخ علاقة دولة بمواطنيها، ولم يعد قاصراً على حالة الاحتلال الصهيوني وتعامله مع الفلسطينيين النازحين والمهجرين، نتيجة مذابح عصابات الانقلاب.