عن عودة نظام البوليس في تونس
لا ينفكّ الرئيس التونسي قيس سعيّد يمد يديه وساقيه في كل مساحات السلطة، غير عابئ برفض المعارضة سلوكه وخياراته، والضغط الدولي المسلّط عليه لاحترام المؤسّسات وحماية الحقوق والحريات، والتداعيات الاقتصادية الوخيمة لحكمه.
رغم ادّعاء بعض أنصاره بأنه كان وفيا للرزنامة السياسية التي أعلن عنها في السنة الفارطة، ونجح في تنفيذ نقاطها، وجديدها أخيرا تنصيب البرلمان الجديد، إلا أن هذا الادّعاء يخفي حقيقة الفشل الذريع الذي تسبح فيه سلطات الانقلاب على جميع الأصعدة، سياسيا، اقتصاديا واجتماعيا.
النجاح الوحيد الذي حقّقه سعيّد تدمير مؤسّسات الدولة وإلغاء أدوارها والاستحواذ على جميع السلطات، ليحوّل البناء الديمقراطي إلى ركام يتربع فوقه يتلو ترانيمه العنصرية وخطبه الإقصائية بلغة خشبية جوفاء.
لقد نزّل خُطته الشعبوية عُنوة ومرّرها غصبا مُزيلا في سبيلها خصومه الذين وزّع الظلم بينهم بقدر من العدل، بين معتقلين ومراقبين وممنوعين من السفر ومهجّرين، مسلّطا سيف القضاء الخاضع لأوامره وتهديداته على الجميع، لا يفرّق في ذلك بين يساري وإسلامي وليبرالي أو نقابي، فبعد حله المجالس البلدية أخيرا، ونسف مسار اللامركزية والحكم المحلي الذي يُعدّ من أهم العلامات المضيئة في العشرية الفارطة، دعا برلمانَه الجديد إلى الانعقاد بترتيبات أمنية وإعلامية صارمة، ليضمن السيطرة على نوابه وصورته منذ لحظاته الأولى، حيث كانت عملية اعتقال أحد النواب من داخل قبة المجلس رسالة تهديد وضغط إلى كل زملائه، حتى لا تسوّل لهم أنفسهم القيام أو التصريح بما لا يُرضي من وضع قوانين اللعبة التي لا يتجاوز دور النواب فيها دور الكومبارس.
كشف ما قام به سعيّد هشاشة المؤسسات والهيئات الديمقراطية، ورخاوة المجتمع المدني
كشف ما قام به قيس سعيّد هشاشة المؤسّسات والهيئات الديمقراطية، كما كشف أيضا رخاوة المجتمع المدني الذي برز كأحد أعمدة البناء الديمقراطي، وتم الاستثمار فيه وطنيا ودوليا، كما بيّن ازدواجية المواقف لدى عديد النخب المدّعية الحداثة والديمقراطية، المتموقعة في أكثر من مجال، والتي كانت بمثابة الشوكة في خصر المسار الديمقراطي طوال السنوات الماضية. كانوا يعظّمون صغائر الأمور ويقيمون لها الموائد والحملات، فصار أشجعهم اليوم يُبسّط عظائمها، ويضع لها الأطر والسياقات. وهذا ما مهد الطريق لتمدّد بطش النظام عبر أجهزته الأمنية أساسا، ولم يكفِه الاستحواذ على كل السلطات، ليصبح رقيبا على سكنات معارضيه ولقاءاتهم واتصالاتهم. حيث تُقابَل كل مبادرة تجميع أو حوار بين المعارضين بتهم التآمر على أمن الدولة ويُحال أصحابها على القطب القضائي للإرهاب. والهدف الرئيسي من ذلك مواجهة الخصوم فرادى، وتشتيت قواهم ومنع التقائهم حول كلمة سواء، تجعل صوتهم أقوى أمام الشعب وفي وجه منظومة الانقلاب.
لقد تحوّلت المعركة مع النظام إلى جانبها النفسي والمعنوي، فهي معركة إرادات بالأساس. ولذلك اختارت الأجهزة العميقة أن تنطلق في خطّة التفتيت والتشتيت، مع بثّ الخوف والرعب في قلوب المعارضين وعموم الناس، من خلال مظاهر البطش في المداهمات البوليسية الليلية للمنازل وظروف الإيقاف السيئة مع ساعات البحث والتحقيق الطويلة رغم سذاجة الأسئلة، ناهيك عن استهداف بعض رموز المعارضة داخل السجون، عبر وضعهم في ظروفٍ لاإنسانية.
كل هذا الظلم جعل كثيرين يسترجعون مقولاتٍ كانت تتردد في المنازل والشوارع زمن نظام بن علي إذا وصل بهم الحديث إلى مقدّمات السياسة، من قبيل "اسكت إن للجدران آذانا ..." خوفا من الملاحقات والتضييقات. ... ولكن رغم اختراق آذان النظام الجدران والمجالس آنذاك، إلا أن كل الرأس سقط دفعة واحدة، ولم يبق منه سوى جسمه الذي وقع التغافل عنه، وها هو يحاول في كل مرّة أن يجد له رأسا جديدا.