15 نوفمبر 2024
عن غياب بوب وودورد عربي
كانت قد مضت ستّ سنواتٍ على وفاة أنور السادات، لمّا نشر أحمد بهاء الدين، في العام 1987، كتابَه الجذّاب، "محاوراتي مع السادات"، والذي قرأنا فيه عن الرئيس المصري الراحل أمورا دفعتنا إلى أسئلةٍ غير قليلة، تعلّق بعضُها بأهليّة الرجل للحكم، وكيف تأتّى له أن يبقى رئيسا في بلدٍ عربيٍّ كبيرٍ ومركزيٍّ أزيد من عقد، قبل أن تنتهي رئاستُه بواقعة الاغتيال الشهيرة، وإنْ في الذاكرة أن الكتاب لم يمسّ القدرات العقليّة للسادات، ولا ملكاتِه الذهنيّة، وإنما جاء على ضجرِه من التقارير التي كانت تُرفع إليه، وعلى استحسانِه سماع الوشايات، وعلى مزاجيّته في اتخاذ قراراتٍ غير قليلة. وأيا كان الحال، المكتبة العربية فقيرةٌ جدّا بكتبٍ مثل كتاب صاحب القلم الرشيق، بهاء الدين، عن رؤساء وحكّامٍ عرب، تحوز منزلةً عاليةً من الموثوقيّة، وإنْ يمكن الإشارة إلى كتبٍ عربيةٍ شحيحة، طيّبة المستوى جزئيا، لبنانية ومصرية غالبا، على أن المشترك الأهم بشأن إصداراتٍ من هذا اللون أن أصحابَها لا يبادرون إلى كتابتها إلا بعد رحيل الرؤساء، موتا أو خلعا، إذا انكتبت أصلا. وحتى اللحظة، لا نتوفّر على كتبٍ ذات مصداقيةٍ، وموثوقة المعلومات، عن معمّر القذافي وزين العابدين بن علي وحافظ الأسد، مثلا، أما الكتاباتُ الموتورةُ وذاتُ الأنفاس الدعائية، والمنقوصةُ الثقة، والتي توالى نشرُها في العقد الماضي، عن صدّام حسين، فتصلح للتصفّح في صالونات الحلاقة، ولا يعتدّ بها.
ليست مناخاتُنا العربية، الثقافية العامة، ولا أجواؤنا السياسية، ولا فضاءاتنا الإعلامية، صالحةً لتكون بيئاتٍ تشهد إنتاجاتٍ صحافيةً عالية المستوى بشأن هذا الحاكم العربي أو ذاك، من قبيل الذي يتتابع إصدارُه في بعض الغرب، الولايات المتحدة خصوصا. من العسير (أو الاستحالة؟) أن يظهر صحافي عربي محترف، تتيسّر له قنواتُ الوصول إلى المعلومات التي يُريد، وفي وسعه أن يكون حرّا تماما وهو يُنجز عملا رفيعا عن هذا الرئيس العربي أو ذاك. وبالتأكيد، كل الاحترام لجهود محمد حسنين هيكل، وغيره، في توثيق حروبٍ ووقائع عربيةٍ غير قليلة، بعين المؤرّخ الذي يوظّف الوثيقة والأرشيفات، غير أن هذا كله يخصُّ نقاشا آخر. السؤال هنا: لماذا انعدم في كل الأزمنة العربية وجودُ كفاءةٍ استثنائيةٍ في سويّة الأميركي بوب وودورد الذي في مقدوره أن يُنجز عن دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة المقيم حاليا في البيت الأبيض، كتابا مثيرا وممتعا، وعلى درجةٍ عاليةٍ من الصّدقية والاتّزان والموضوعية، معتمدا على مئات الساعات من المقابلات المسجّلة مع مصادر مهمةٍ مسمّاة؟ للمؤلف نفسِه كتبٌ سابقةٌ عن باراك أوباما وجورج بوش الابن والأب وريتشارد نيكسون، غير أن "الخبطة" هنا أن الكتاب الجديد (الخوف) "يُشرشح" الرئيس، ويسخّفه، على ألسنة من عملوا ويعملون معه، وزراء وموظفين كبار ومستشارين مرموقين.
ليس الغرض هنا من هذا السؤال، وإيحاءاتِه، جلدُ الذات، ولا تظهيرُ شعورٍ فينا بالنقص والدونيّة (والحسد؟) أمام صحافيين قديرين هناك، أعلى كعبا منا نحن الصحافيين العرب هنا. لا، ليس الأمر كذلك أبدا. فضلا عن أن هذا لا يجوز، بل وليس من الموضوعيّة طرح الأمر على هذا النحو، لأن الإجابة عن السؤال لا تحتاج عبقريةً خاصة، فهي معلومةٌ ومُرسَلة، وموجزُها أن الفضاء العربي العام، في العموم وبعيدا عن الاستثناءات، منذورٌ لخنق كل فرص التميّز وإمكاناته في غير شأنٍ وعلى غير صعيد، ومن الكاريكاتوريّ أن يُتَحدّثَ عن انعدام وجود بوب وودورد عربي، ينتسبُ إلى صحيفةٍ عربيةٍ تُضارع الصحيفة التي تألّق فيها هذا الرجل، واشنطن بوست (التي لا يحبّها ترامب، كما صارت توصف!)، فيما لم تعرّفنا جامعةٌ عربيةٌ بأفذاذ ومبتكرين في الفيزياء والكيمياء والهندسة. وكما أبدع علي نايفة وأحمد زويل (وغيرهما) في معامل جامعات أميركا ومؤسّساتها العلمية، في وُسع أهل إعلامٍ وصحافةٍ عربٍ موهوبين، وذوي قدراتٍ وطاقاتٍ خلاقة، أن يحلّقوا، ويتجاوزوا حالة البحث عن أكل العيش التي يُغالبونها في بلدهم، لو تيسّرت لهم التربة الصالحة والإمكانات والحرّيات والبيئات التي تُماثل التي خاض فيها علماء ومخترعون وعباقرة عربٌ هناك.
وحدها النّتفُ الشديدةُ الاقتضاب التي نُشرت أخيرا من الكتاب الجديد لبوب وودورد (له كشوفاتٌ صحافية أخرى، غير "فضيحة ووترغيت" مع زميل له)، جاءت إلى الخاطر بهذه الأفكار البالغة العاديّة بشأن عالمٍ عربيٍّ لا يبعث حالُه على غير الأسف والإحباط. أما عند قراءة الكتاب، فمقامٌ آخر ومقالٌ آخر ربما.