عن فيلم "رفعت عيني للسما"
في ظلّ مظاهر التراجع والتردّي والانهيار والإفلاس التي تشهدها السينما المصرية، والمُتمثّلة في الإصرار على إنتاج أفلام تقليدية مسلوقة، ذات طابع تجاري استهلاكي تُنتَج خاصة لمواسم الأعياد، هابطة المستوى الفني، سطحية المضمون، ببطولات مفتعلة لشخصية الفتوّة البلطجي السوبر.. في ظلّ هذه المظاهر، تُروّج مثل هذه الأفلام شخصياتٍ عنيفةً سيئةَ السمعة والسلوك باعتبارها نماذجَ إيجابية يَحتذي بها الشباب.
في غمرة هذا الخراب الشامل الباعث على اليأس والخيبة، تأتي مفاجأة سارّة تفرح قلب المشاهد العربي، وتبثّ الأملَ في روحه بإمكانية النهوض فنّياً من جديد، والوصول إلى سينما جادّة عميقة ذات رسالة ثقافية جمالية تعكس ملامح الثقافة العربية، وتعالج قضايا (وهمومَ) مجتمعاتنا الغارقة في البؤس في غير صعيد، جرى ذلك حين حقّقت السينما المصرية إنجازاً كبيراً يستحقّ الاحتفال والإشادة، بحصول فيلم "رفعت عيني للسما"، من إخراج ندى رياض وأيمن الأمير، على جائزة العين الذهبية لأفضل فيلم تسجيلي في مهرجان كان السينمائي في دورته الـ 77، مناصفةً مع فيلم فرنسي، في منافسة مع 22 فيلم تسجيلي من مختلف دول العالم. يسرد الفيلم، البديع المشغول بحرفية واعتناء مدهش بالتفاصيل، حكايةَ مجموعةٍ من الفتيات المبدعات الموهوبات الطموحات، أعمارهن بين 15 و33 سنة، من قرية برشا في صعيد مصر، جمعهن الحلم في التغيير، والرغبة في التعبير فنّياً عن أفكارهن ومشاعرهن وهواجسهن ومخاوفهن واحتجاجهن على التهميش والظلم، في مواجهة العقلية الذكورية السائدة المُتسلّطة، انتصرن بجهودهن الفردية لقضية المرأة، وعرضن معاناتها وعذاباتها الكثيرة، فلجأن إلى تأسيس فرقة مسرحيّة بأقلّ الكُلَف، تنتمي إلى مسرح الشارع، سمّينها "بانوراما برشا" نسبة إلى اسم قريتهن؛ برشا، في محافظة المنيا، ولم يتردّدن في عرض أعمالهن المسرحية في شوارع قريتهن وشوارع القرى المجاورة.
أعمال بسيطة مُرتجَلة، ولكن متقنة، تتناول قضايا تخصّ المرأة مثل الحقّ في التعليم والعمل واختيار شريك الحياة، وتُسلّط الضوء على ظواهر مجتمعية سلبية مؤسفة، لا تتعلق بمنطقة الصعيد المصري فحسب، بل تُعبّر عن أوجاع المرأة العربية في كلّ مكان، مثل العنف الأُسَريّ، والزواج المُبكّر، والتحرش، والقمع والاضطهاد، ومصادرة الأحلام، ما ألهم صنّاع الفيلم سرد حكايتهن في فضاء تسجيلي وثائقي، وقد تابع مُخرِجا العمل، في مدى أربع سنوات، تفاصيل حيوات تلك الفتيات الشجاعات العنيدات المتشبّثات بحقّهن في الحياة بأسلوب واقعي خالٍ من المبالغات والفذلكة، فرصدا معاناتهن اليومية وإنجازاتهن المشرّفة، في مجتمع محافظ ما زال ينكر على المرأه حقوقها، ويتعامل معها باعتبارها من درجة أدنى.
تحدّت تلك الفتيات صعوبات جمّة، وكسرن حواجز كثيرة، غير أنهن صمدن وقاومن، وواصلن رحلة التحدّي والتمرّد وحقّقن ذواتهن، وانتزعن اعتراف الجميع بأهمية منجزهن، ونجحن في بثّ رسالتهن المُحتفيَة بالأنوثة من خلال المشاهد الدرامية والأغنيات والرقصات المستوحاة من الفلكلور الشعبي الصعيدي، والمُعبّرة بأسلوب فنّي راقٍ ملتزمٍ تمكَّن من ترجمة رؤية فريق الإخراج، الذي نفّذ العمل ببراعة لا يمكن تجاهلها، وقد قال الناقد المصري طارق الشناوي إنّ سحرالفيلم يكمن في عدم اعتماده على الأداء الدرامي، بل على صدق الإحساس وواقعية الصورة.
في إحدى الأغنيات في الفيلم، التي تُعبّر ببلاغة عن واقع نسوي صعب، وتختصر بكلمات بسيطة مباشرة، وبلهجة صعيدية مُميّزة، واقع المرأة العربية، تردّد الفتيات "أنا جسمي مش خطية، ولا لبسي ده قضية، مش عارفه أمشي بحرّية، ولا عارفه ألبس فستان، والمتحرّش غلطان، والمتحرّش جبان".
تحية كبيرة إلى المُخرجَين ندى رياض وأيمن الأمير، وهما يأخذان بأيدي صبايا برشا المبدعات الجميلات، وهنَّ يحلّقن عالياً في فضاء الحرّية التي بلا شروط.