عن مجتمعات الاستبداد واستبداد الدكتاتورية
ليس للدكتاتور وجه واحد أو وحيد. يمتلك وجوهاً متعدّدة، أبرزها وجه السلطة المعلن، بما يتضمنه من وجه السلطوية الخفي، وحرّاسها الأوفياء من أفراد "السلطة العميقة" ومجموعاتها وأحزابها، المشتغلين بالعمل على استمرار ديمومة السلطة؛ سلطة الدكتاتور فرداً، وسلطة استبداد المجاميع الخاضعة لهيمنة المصالح الشخصية الخاصة، حين يجرى توظيفها لمصالح الدكتاتور وحاشيته الأسرية والعائلية والفئوية الخاصة التي ستصبح، مع الوقت، رمزاً للمصلحة العامة في اختزال فاضح وواضح لدكتاتورية استبدادٍ تنغلق على ذاتها لتتحوّل إلى "سلطة إلهية"، لا تنظر إلى ذاتها بعين القداسة فحسب، بل تريد أن يقدّسها الناس، وينافحوا عنها منافحتهم عما يعتقدون واهمين أنها مصالحهم العامة من ضمن مصالح الدولة العليا.
يخطئ من يظن أن الدكتاتور يمارس فنون دكتاتوريته وحيداً، أو هو يستبدّ برأيه استبداداً فردياً خالصاً، من دون الحاشية المحيطة ومجاميع المستشارين وأهل السلطة ممن يشكلون القاعدة الاجتماعية والطبقية والسياسية والحزبوية، لمنظومة الحكم والسلطة، تلك التي تهيمن على المجتمع وتسومه سوء الإخضاع، في غياب روح التمرّد والمقاومة، الكفيلة بتقويض بنيان الاستبداد والديكتاتورية وعمرانهما، حتى بات قسم كبير من المجتمع والثقافة التقليدية السائدة في اصطفافها إلى جانب أنظمة الحكم والسلطة، من أبرز (وأكبر) معوقات الخلاص من استبداد الديكتاتوريات السلطوية السياسية والطبقية منها، كما الثيوقراطيات الدينية التي لعبت، عبر التاريخ، الدور البارز في تكريس التزييفات التاريخانية والسرديات المخترعة في المروّيات الدينية، حتى باتت السلطة تضاهي قداسة التديّن، وبات التديّن يضاهي قداسة السلطة.
تؤكد العناصر الجوهرية للهبّات الجماهيرية التي تتحوّل إلى انتفاضات شعبية أن الناس العاديين، حتى غير المسيّسين منهم، باتوا يستشعرون ضرورة الاستجابة لنظرية "التحاكم التبادلي" وحدسه
هنا تستمرئ السلطة، سلطة الدولة الفاشلة، احتجابها خلف الغلالات التقليدية لنيل شرعيتها حتى الانتخابية، المشكوك فيها على الدوام، وتبقى تمارس مسلكياتٍ وسلوكياتٍ غير قانونية وغير شرعية، نظراً إلى عدم احترامها الدستور، وانتهاكها له ولقوانينه الملزمة، حين تتعارض مصالحها مع مصالح الدولة، فتنحاز لما يدغدغ مشاعرها بوصفها سلطة فوق القانون؛ كيف لا وهي سليلة الاستبداد والديكتاتورية، الأعلى منزلةً من منزلة الدستور، وقد جرى استبداله بمنزلة الشخص/ الأشخاص الأكثر فشلاً في قيادة سلطة البلاد، والأكثر "تناحةً" في التشبث بالرأي المضاد لعقلانية القيادة والزعامة، المشهود لها بانتهاك الحرّيات والحقوق المواطنية، حتى بات المواطن عبداً لدى أسياد المنظومة السلطوية في غياب الدولة.
تؤكد العناصر الجوهرية للهبّات الجماهيرية التي تتحوّل إلى انتفاضات شعبية أن الناس العاديين، حتى غير المسيّسين منهم، باتوا يستشعرون ضرورة الاستجابة لنظرية "التحاكم التبادلي" وحدسه، وهي تخطّ حلم تغيير ممكن، وحلم ديمقراطية مباشرة، يحكم الناس فيها على نظامهم بالبقاء أو بالرحيل، فالدولة والوطن أهم من أي نظام، وقد دلّت خبرة الشعوب والأمم على أنه لا يمكن التعاطي مع أي نظام إلّا كونه "الموظف العام" لدى الناس، وليس العكس. وما يحصل في ظل هيمنة الأنظمة الشمولية الأوتوقراطية والثيوقراطية والاستبدادية أن الناس كانت مادة "التمادي السلطوي" في الحكم عليهم بما أرادت وتريد الأدوات السلطوية الحاكمة، من دون وازع من مسؤولية سياسية أو ضمير أخلاقي.
ولئن كانت الشعوب عموماً أكثر احتياجاً اليوم إلى عقد سياسي اجتماعي جديد، فلا شك في أن عقد "التحاكم التبادلي" بين الدولة وشعبها هو الأوفر حظاً في ديمومة إقامة نظام خدمة سياسي واجتماعي، محدّد زمنياً بفترة أو فترتين لا ثالثة لهما، ولا توريث لأي شخص أو أشخاص يمثلون النظام الاعتباري للدولة، فليس من همٍّ للدولة، ولا من هموم الوطن، أن يواصل الاستبداد حكمه على ما افترضت شخصياتٌ رئاسيةٌ وحكوميةٌ ونيابية؛ خصوصاً وأن أغلبية المنتدبين للنيابة عن الشعب في بلادنا هم بالتأكيد نواب ينحازون إلى السلطة، لا إلى الشعب المفترض أنهم جاءوا كي يمثلوه في البرلمان، لكنهم استمرأوا لعبة اختزال النظام والدولة والوطن بأشخاص سلطةٍ باتوا هم جزءاً منها، سلطة خانت مصالح الناس، مجتمعاً وطبقات، واستبدلتها بمصالح أفرادها أو أفراد عائلاتها، والمحيطين بها من الأقرباء والأنسباء والشركاء المافيويين وعصاباتهم المهيمنة على السلطة، وعلى رقاب الناس ومصالحهم.
دللت خبرات شعوبنا مع منظوماتها السلطوية الحاكمة أن نرجسية تلك المنظومات وأنانياتها تجاوزت كل إمكانية على الاحتمال
الاستبداد بهذا المعنى تحاكم فردي أو سلطوي، لم يكن يوماً تبادلياً. من هنا، تشكل مطالب الانتفاضات الشعبية إحدى أهم أدوات استعادة "التحاكم التبادلي" إلى أصحاب الحق؛ ليس في استعادة حقهم ومشاركتهم بالسلطة، واختيارهم الحرّ أفرادها فحسب، بل في استعادة حقهم المسلوب من السلطة في أن تكون ناتج خياراتهم هم، لا ناتج خيارات التزوير والتزييف والفرض القسري من قوى خارجية إقليمية أو دولية، أو حتى قوى محلية تملك المال وجاه السلطان للتحوّل إلى "سلطة دائمة"، جرّاء امتلاكها المال والوكالات والشركات، وقدرتها على ممارسة السمسرة والبيع والشراء من دون حسيبٍ أو رقيب، في تزويجٍ حرام للمال والسلطة، والطلاق الحلال البائن بين القيم والأخلاق والسلطة، وكل ما ينتج منها وعنها.
لقد دللت خبرات شعوبنا مع منظوماتها السلطوية الحاكمة أن نرجسية تلك المنظومات وأنانياتها تجاوزت كل إمكانية على الاحتمال، كما تجاوزت كل رغبةٍ بالإصلاح أو التغيير، المحرّمين في أروقة السلطة، ما جعل ويجعل من رموزها أكثر تشبثاً بامتيازاتهم الخاصة ومصالحهم الشخصية، إلى حدّ التشفّي بالناس ومصالحها وازدراء حقوقهم الإنسانية والطبيعية، في ظل تغييب هذه الحقوق من لدن أهل السلطة، وتغليب مصالح الاستزعام والاستزلام على حساب بقية الناس، وكأن لا حقوق لناس الشعب في نظر السلطة سوى حقوق القمع والردع، واستعمال العصا الغليظة والرصاص والقنابل، كل ما استدعت الحاجة لارتداعهم عما هم يطالبون به من حقوقٍ تتنافى وواجبات يؤدّونها اتجاه السلطة، لا اتجاه الدولة المغيبة دائماً عن علاقات السلطة بمحكوميها.
في زمن الانهيارات الكبرى، باتت وجوه معظم السلطويين، بمثابة الوجوه المتعدّدة للقناع الواحد
في زمن انهيارات القيم والمبادئ، في تواكبها مع انهيارات الدول الفاشلة، وما كان قد جرى قبلاً من انهياراتٍ في الاقتصاد وفي السياسة، لم يعد للدولة من وجود، سوى ذلك "المحاق" و"المحال" الذي بات يظهر أخيراً في عديدٍ مما كانت تتسمّى دولاً، سقطت في براثن الإفلاس الأخلاقي والسياسي والقيمي والمالي، بعد أن بلغ الفساد السياسي والإفساد المجتمعي والوظائفي حدود نهب المال العام وتفشّي الرشى وسرقة الأموال المخصصة للمشاريع الضرورية للبنى التحتية، حتى صارت الدولة وميزانياتها "بقرةً حلوباً" للسياسيين من أهل السلطة التي لم يكفها التسول على أبواب "الأبوات" و"الأعمام" الغربيين أو الشرقيين، وقد طاولت أياديهم حتى أرصدة المواطنين الصغرى التي جرى نهبها بقوانين همايونية، أسقطت كل هيبةٍ للدولة بفعل ممارسات (ومسلكيات) السلطة، القوية منها والضعيفة، التاريخية وأشباهها، كما الراهنة في استخدام طرائق و"العبودية القطيعية" التي باتت موضة عصر دويلات الدكتاتوريات المقنعة، ودول الاستبداد التي تزينها البرلمانات والانتخابات الطوطمية شكلاً ومضموناً.
في زمن الانهيارات الكبرى، باتت وجوه معظم السلطويين، بمثابة الوجوه المتعدّدة للقناع الواحد، حيث نواب الشعب باتوا نواب سلطة، وحيث الاختيارات الشعبية الانتخابية تداهن خيارات أصحابها وتزيفها، استجابة لأهداف طوائفية ومذهبية، كما لأهداف وظائفية وتوظيفية، وحدها السلطة وأهل السلطة من تستفيد منها لمصالح أفرادها ومنظوماتها السياسية والتكتلية والحزبوية، أما الناس/ الشعب فلهم الجحيم الجهنمي يرتعون فيه، كما في معظم بلدان السلطويات الحاكمة.
في زمن الانهيارات الكبرى التي بتنا نعيش أحد أبرز تجليّات مسلسلاتها المتواصلة، بات من الصعب، إن لم لنقل من الاستحالة، الخروج من حالٍ إلى حال، كما يعد كذباً بعض أهل السلطة بانقلاب الوضع رأساً على عقب في حال تغيير حكومة أو تشكيلها، أو اتخاذ بعض إجراءاتٍ أو قراراتٍ سياسوية شعبوية. المسألة أعمق من هذا التبسيط المخلّ بالوضع والمنطق. الخلل الرئيس يكمن في منظومة السلطة الحاكمة غير القادرة على الحكم بمسؤولية، الأمر الذي يحتّم تغييرها، وإلا سيبقى الحال من المحال أن يستمر على ما هو عليه، فإما الفوضى الشاملة أو الحرب الداخلية أو مع العدو القومي، مع ما تحمله تلك الاحتمالات من انهيارٍ شامل، من المرجّح أن يكون سيد مرحلةٍ من أقسى المراحل وأفصحها انحطاطاً وتخلفاً.