عن هذه المواجهات في سورية
تعود مناطق شمال شرقي سورية، التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلى عناوين الأخبار، بعد هجوم نفَّذه الفصيل المسمَّى "جيش العشائر"، بزعامة إبراهيم الهفل، شيخ عشيرة العكيدات، مدعوماً من مليشيات موالية لإيران والنظام السوري، ضدّ نقاط تمركز عناصر "قسد" في ريف محافظة دير الزور. وعلى الرغم من نجاح "قسد" في صدّ الهجوم، بإسناد ناري من المروحيات الحربية الأميركية، لم يتوقَّف التصعيد، وجرى تبادلُ قصفٍ مدفعي، أسفر عن سقوط قتلى وجرحى مدنيين، بينهم أطفال ونساء، واستقدم الجانبان تعزيزات إضافية. فرضت "قسد" حصاراً على قوات النظام في المربَّعَين الأمنيَّين لكلّ من مدينتَي الحسكة والقامشلي، ولم تُفلح وساطة روسية في التوصّل إلى فكّ الحصار (حتّى ساعة كتابة هذا المقال)، ثمّ تجدَّدت المواجهات، وقصفت مدفعية النظام مواقع "قسد"، وبالتزامن مع محاولة مقاتلي العشائر التقدّم برّاً بدعم إيراني باتجاه قرى وبلدات تحت سيطرة قسد.
أدّت التطوّرات الميدانية إلى تصعيدٍ في لغة البيانات الرسمية، بين النظام وسلطة الإدارة الذاتية لشمال وشرقي سورية، التي أصدرت بياناً اتّهمت فيه مخابرات النظام بتدبير الهجوم، في مقابل إصدار وزارة الخارجية السورية بياناً يصف "قسد" بـ"المليشيا العميلة للاحتلال الأميركي"، ويُحمّلها مسؤوليةَ "شنّ هجماتٍ إجراميةٍ على دير الزور والحسكة والقامشلي، ما أدّى إلى استشهاد عدد من المواطنين" وفق البيان. وعلى وقع الاشتباكات وسقوط ضحايا ونزوح أعداد كبيرة من المدنيين، حذّر مكتب الأمم المتّحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية من استمرار التصعيد، مُعرباً عن قلقه إزاء تفاقم الأوضاع الإنسانية، وتضرُّر البنى التحتية، بما فيها محطّات المياه، ومنشآت خدمية تدعمها الأمم المتّحدة.
يمكن قراءة التصعيد الميداني ضدّ "قسد" في إطار مساعي النظام وإيران إلى استغلال الانشغال الأميركي في ملفّات تبدو أكثر أهمّيةً، مثل حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة المنكوب، والتوتّر المتصاعد في الجبهة اللبنانية، وترقّب الردّ الإيراني على عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة في طهران، وردّ حزب الله على اغتيال المسؤول العسكري البارز في الحزب فؤاد شكر، إلى جانب التطوّرات الميدانية المتسارعة في جبهات الحرب الأوكرانية. وفي الوقت نفسه، يرسل النظام، من خلال الضغط الميداني على "قسد" و"الإدارة الذاتية"، رسائلَ سياسيةً إلى الجانب التركي، في ضوء المساعي الجارية لفتح صفحة جديدة بين أنقرة ودمشق، وتلاقي مصالحهما في رفض استمرار الوضع الراهن في مناطق شرقي نهر الفرات.
جاء التصعيد ضدّ "قسد" في مصلحتها، إذ شكّل فرصةً لتأكيد استمرار التزام واشنطن بحماية مصالحها ودعم حلفائها في سورية
ولكنّ إسهام القوّات الأميركية المباشر في صدّ الهجمات أحبط خطط النظام وإيران، أقلّه مُؤقَّتاً. وعلى طريقة "رُبَّ ضارّةٍ نافعة"، جاء هذا التصعيد ضدّ "قسد" في مصلحتها، إذ شكّل فرصةً لتأكيد استمرار التزام واشنطن بحماية مصالحها ودعم حلفائها في سورية، بصرف النظر عن انشغالها في غير ملفّات ساخنة. ومن جهة ثانية، أعاد التذكير بأنّ المسألةَ الكرديةَ تقع في نقطة تقاطع جملة من التوازنات الإقليمية والدولية، تجعلها من أكثر ملفّات الشرق الأوسط تعقيداً، والتعامل معها، سياسياً وميدانياً، تحكمه تكتيكات متغيّرة ضمن استراتيجيات شبه ثابتة.
يأتي وصفُ القضية الكردية بالتعقيد استناداً إلى تشابك مستويات مُتعدّدة من الصراعات والأطراف فيها، دولية وإقليمية ومحلّية/أهلية، فالقضية تمسّ جماعةً قوميةً ممتدَّةً عبر حدود أربع دول، لكلّ منها حساباتها ومصالحها. وفي زمن لم تعد الدول وحدها من يتشكّل منها المجتمع الدولي، بما ينطوي عليه من صراعات وتحالفات تفرضها المصالح، استطاعت قوىً كرديةٌ لَعِبَ أدوارٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ، وحتّى اقتصاديةٍ مُؤثّرة في الشرق الأوسط، وأصبحت تحمل خصائص "الفاعلين الدوليين من غير الدول"، وفق أدبيات العلاقات الدولية.
ينطبق هذا الوصف على حالة أكراد سورية، سيما بعد مشاركتهم الفاعلة في التحالف الدولي ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تحت قيادة الولايات المتّحدة، وتأسيس سلطة إدارة ذاتية، نجحت إلى حدّ كبير في إدارة مناطقَ واسعةٍ خارجةٍ عن سيطرة نظام الأسد، وحافظت على قنوات اتّصال وتنسيق بدرجات متفاوتة مع مختلف الأطراف، ومنهم روسيا والنظام السوري نفسه. وأنشأت "دائرة العلاقات الخارجية"، التي تقوم بنشاط ملحوظ في لقاء وفود سياسية وبرلمانية ودبلوماسية من دول غربية، وافتتحت مكاتب تسمّيها "ممثّليات" في بعضها، بهدف الترويج سياسياً وإعلامياً لمشروع "الإدارة الذاتية"، فحازت ثقة شركاء وداعمين غربيين، وجدوا أداءها، على ما يعتريه من عيوب، أقلَّ سوءاً من أداء سلطات الأمر الواقع المختلفة في شمال غربي سورية.
على الرغم من حرص "قسد" و"الإدارة الذاتية" على تمتين التحالفات والاستفادة من تناقض مصالح الخصوم، فإنّ مصير هذه التجربة ليس بأيدي أصحابها وحدهم، ويكشف تاريخ تعامل اللاعبين الإقليميين والدوليين الفاعلين في المسألة الكردية، على اختلاف مصالحهم، أنّ الثابت في توجّهاتهم جميعاً كان إدامةَ المشكلة والاستثمارَ فيها وليس إيجادَ حلٍّ لها. والأكثر أهمّية هو تعذّر إيجاد تسوية لأيّ جزء من سورية بمعزلٍ عن حلٍّ سياسيٍّ شاملٍ قابلٍ للحياة، يحظى بتوافق دولي وإقليمي، وهو ما يصعب التوصّل إليه في المدى المنظور.