في الحاجة إلى مقاربات سوريّة جديدة
تنقسم سورية اليوم إلى مناطق نفوذ واضحة المعالم، تفصل بينها "خطوط هدنة" شبه ثابتة، بعد تحوّلات وانعطافات في مجرى الأحداث استغرقت سنوات. رافق ذلك مسارات سياسية متعرّجة، راكمت الفشل تلو الفشل، لم يفلح عرّابوها في تحقيق أيّ خطوة جدّية باتّجاه حلّ سياسي قابل للحياة، يضع حدّاً لمأساة الشعب السوري، الذي يبدو وكأنّه أصبح خارج المعادلة.
بالتوازي مع المتغيّرات الميدانية والسياسية، كانت الرقعة المنكوبة بالفقر والبطالة وفوضى المليشيات وتفشّي المخدّرات والجريمة، تزداد اتساعاً، متجاوزةً خطوط التماسّ القائمة، لتشمل عموم الأراضي السورية، سواء التي يسيطر عليها نظام الأسد وحماته الروس والإيرانيون، أم غيرها مما يقع تحت سيطرة قوى الأمر الواقع الأخرى وداعميها.
لكن، على الرغم من الانقسام السياسي (والطائفي) الحادّ بين المناطق، تظهر بوضوح قواسم مشتركة بارزة بين سكّانها، أنتجتها سنوات الصراع. يتشارك عموم السوريين، وإنْ بتفاوتٍ نسبيّ بين منطقة وأخرى، المعاناة الناجمة عن الانهيار شبه التام للاقتصاد السوري، وتردّي الأوضاع المعيشية. ولا يخفون التذمّر من استبداد السلطات التي يخضعون لها قسراً، وهم يعايشون فسادها وإجرامها يومياً، إذ لم يعد لديهم أدنى شكّ، في أنّ شعاراتها ومقولاتها البرّاقة (باسم الثورة، أو الشعب أو الدين أو الوطن... إلخ)، ليست سوى ادّعاءات فارغة، فهي لا تكترث لأمرهم، ولا تقيم لهم وزناً، شأنها شأن نخب سياسية وإعلامية، لم يعد لديها ما تفعل سوى تبرير الواقع وتشويه الوعي بأسبابه الحقيقية، وفق ما تقتضيه مصلحة الجهة التي تعمل لديها. والحقيقة الموضوعية التي لا جدال فيها عند السوريين كافّة، هي حالة اليأس والإحباط الشديدين من القوى الكبرى والأمم المتحدة، والدول "الحليفة" و"الصديقة" و"الشقيقة"، وتحميلها جميعاً جزءاً غير يسير من المسؤولية عن تفاقم الكارثة السورية واستمرارها.
المطلوب العمل على التواصل والتنسيق بين نشطاء فاعلين ذوي مصداقية من مختلف المناطق السورية، من جيل الشباب خصوصاً
ومع تواتر أنباء عن مؤتمرات عُقِدت وأخرى يجري التحضير لها، داخل سورية وخارجها، يفترض بالقائمين عليها عدم إغفال ما سبق. قد يكون بوسع من تبقّى من السوريين المؤمنين بالتغيير والساعين إليه حقاً التفكير في مقاربات سياسية جديدة، تدفع نحو تشكّل حراك شعبي يتجاوز الانقسامات المركّبة المزمنة، ويبني على القواسم المشتركة المستجدّة، فيكسر اصطفافات فقدت كثيراً من معناها على أرض الواقع، من قبيل ثنائيّتي "موالاة/ معارضة"، والاستثمار في مناخ الغضب والإحباط الشامل، لا سيما في الأوساط الموصوفة بـ"الموالية"، بغية تحويله إلى قوّة ضغط شعبي على نطاق واسع، يمكن أن تسفر عن نتائج ملموسة على الأرض. لا يتعلّق الأمر بالتحريض السياسي أو الأيديولوجي، فالكيل طفح بالناس ولا حاجة بهم إلى من يذكّرهم بما يقاسونه، وإنما المطلوب العمل على التواصل والتنسيق بين نشطاء فاعلين ذوي مصداقية من مختلف المناطق، من جيل الشباب خصوصاً، وتنظيم حراك متزامن، يركّز على أهداف مرحلية واضحة، وفق شروط كلّ منطقة، من حيث طبيعة مشكلاتها، وإمكانية الحركة وشكلها، والتبعات المتوقعة.
السنوات التي تلت انطلاق الثورة السورية حملت قدراً لا يُستهان به من "الوهم السياسي"
ليس من المبالغة القول إنّ السنوات التي تلت انطلاق الثورة السورية، حملت قدراً لا يُستهان به مما تسميه أدبيات بحثية "الوهم السياسي"، ويُقصد به "التصوّرات والأفكار والخرافات التي يعتقد المرء بصحتها من دون أساس واقعي وعقلي وعلمي، وبأنها قابلة للتحقّق في الواقع"، وهذا يؤدّي إلى نتائج كارثية قدّم الواقع السوري أمثلة لا تحصى عليها. يقابل الوهمَ السياسي مفهومُ "الخيال السياسي العلمي"، وهو "ليس مجرّد تغيير في الأدوات والأساليب السياسية فقط، بل هو أيضاً رؤية ذات بعد عميق تستشرف المستقبل أو تعيد قراءة الواقع من منطلقات ومقاربات مختلفة جوهرياً عن السائد والنمطي والمتكرر"، وفق تعبير عمّار علي حسن، في كتابه "الخيال السياسي".
ساد في الآونة الأخيرة مناخ يوحي بأنّ دولاً عربية فاعلة حسمت أمرها، واتّخذت خطوات نحو تطبيع عربي تدريجي مع نظام الأسد، وأنّه بصدد امتلاك أوراق قوّة، تعزّز موقفه في الداخل والخارج. إلا أنّ المؤشرات تدلّ على فشل هذا التوجّه وعبثيته، ومن ثمّ استفحال عجز النظام في التعامل مع تدهور الأحوال الاقتصادية، بعد بلوغها مبلغاً ينذر بانفجار وشيك. ومن جهة ثانية، ليست الأحوال في بقية مناطق السيطرة بأفضل حالاً ولا أكثر استقراراً، ويدرك السكان هناك أنّ مصيرهم ترسمه تفاهمات قوى خارجية وفق مصالحها المتبدّلة. تحويل هذه الوضعية إلى فرصة تاريخية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يتطلّب من السوريين الجرأة على "الخيال السياسي"، لإيجاد طريقٍ يعيدهم إلى دائرة الفعل، والمشاركة في رسم مستقبل بلادهم.