عيد الأم العربية المقهورة
من حقّ المرأة العربية أن تفرح، وتبتهج، لأننا، نحن الرجال العرب، نمنحها برهة تاريخية نادرة، إذ نكيل لها المديح عندما تصبح أماً. وفي عيدها، نشتري لها قطعة قماش لتخيط منها ثوباً، أو غطاء رأس، أو جوربين، ونبوس يدها في أثناء تقديم الهدية، بينما جهاز التسجيل يصدح بأغنية محمد عبد الوهاب "ست الحبايب"، وإذا كانت متقدّمة في العمر، نُسمعها أغنية وديع الصافي "قدّيش حلوة هالشيبة".
يمكنني أن أرتكب خطأ تعبيرياً؛ فأقول إن حضارتنا العربية ذكورية. ولا علاقة لهذا الخطأ بكلمة "ذكورية"، بل بـ "حضارتنا العربية"، إذ بوسع المرء أن يتساءل: أين الحضارة العربية الآن؟ لو كنا أبناء حضارة عريقة، كما تقول الخطابات، لما احترقت خمس دول عربية أمام أعيننا، وراحت تعمل، في آناء الليل وأطراف النهار، على تزويد البراري والقفار ودول أوروبا باللاجئين. جرّب، عزيزي القارئ، وقل لأبناء هذه الحضارة العظيمة: (أنتم ذكوريون)... هل يزعلون منك؟ لا، أبداً، ولربما تصادم مئةٌ منهم في أثناء قول الجملة الوحيدة التي يحبونها، وهي: نعم، يا سيدي، حضارتنا ذكورية، الرجل رجل، والمرأة مرأة، فهل يستويان؟
لسنا، أصدقائي، بصدد الدخول في بحثٍ فكريّ معمَّق عن ذكورية المجتمع العربي، وعدائه الأزلي للمرأة، لكنّ هذا لا يمنعنا من الإشارة إلى أنّ دعوة الشيخ الأزهري قاسم أمين (1863 - 1908) إلى تحرير المرأة لم تكن مفتوحة على مصراعيها، كما يعتقد بعض الناس... فمَن يقرأ كتابه "تحرير المرأة" (نشرته مؤسّسة هنداوي على الإنترنت)، سيجد أنّ كلّ ما قاله، خلال 102 صفحة، كان ضمن حدود الشرع والدين، هو، مثلاً، لم يُطالب بنزع حجاب المرأة، بل اعترض على الانتقاب والتبرقُع، وأراد أن يكون حجابها معتدلاً يظهر منه الوجه واليدان، لأنّ هذا، برأيه، مقصد الآيات القرآنية المتعلقة بالحجاب، ولم يقدّم في شأن تربية المرأة، وعملها، وبناء العائلة المصرية، رؤيةً علمية معاصرة، بل رؤية "دينية - عقلانية"... وقاسم أمين لا يعترض على تعدّد الزوجات، لأنّ هذا مباحٌ شرعاً، بل على "استغراق الرجل بالملذّات، غير مبالٍ بما فرضه عليه الدينُ من حُسن القصد فيما يعمل، والعدل في ما يأتي... فمن احتقار المرأة أن يطلقها زوجُها بلا سبب، وأن يقعد رب الأسرة إلى طاولة الطعام وحده، وبعد أن يشبع ويقوم تأتي نسوة البيت ليأكلن بعده، وأن يعيّن لها مرافقاً، وعليها مراقباً، وأن يسجنها ويتباهى بأنّ امرأته لم تغادر بيتها قط". ولعلّ الإخوة القرّاء يلاحظون أنّ هذه الأوصاف تذكّرنا بشخصية أحمد عبد الجواد في ثلاثية نجيب محفوظ. ومما يقوله قاسم أمين، في الصفحة الـ 32: "لستُ ممن يطلب المساواة بين المرأة والرجل في التعليم، فذلك غير ضروري، وإنّما أطلب، الآن، أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل".
لكنّ هذا كله لم يمنع جمهور الناس الطيبين، الجاهلينَ حتى بعلوم الدين، من اعتبار قاسم أمين إباحياً فاسقاً فاجراً، ولم يخجل بعضُ الكتاب الصحافيين من أن يطلقوا عليه، في ذلك العصر، نعوتاً غير لائقة مثل: زنديق، كافر، متساهل في عرضه وشرفه. ومما يُروى أنّ رجلاً من الناس قرع عليه الباب وهو يصرُخ، متطاولاً بالكلام عليه وعلى نسائه.
مضى على دعوة قاسم أمين التحرّرية نحو قرن وربع قرن. وعلى الرغم من التطور الهائل الذي فرضته الاختراعات العلمية الحديثة، وثورة الاتصالات، وتحوّل العالم كله إلى ما يشبه قريةً صغيرة، ما زال فريق من الرجال الذكور مستبسلين في العدوان على المرأة، ومَن يطالع الإحصائيات المتعلقة بقتل النساء تحت مسمّى "جرائم الشرف"، وضرب النساء، والتحرّش بالفتيات في الشوارع، لا بد أن يتعاطف مع الأم خصوصاً، ويقترح عليها أن تدعو لأبنائها أن يكونوا منصفين، ليس في يوم واحد من السنة، بل على طول الأيام.