عِشتِ سورية... عاش لبنان
في هذه اللحظة السورية بامتياز، نستذكر الذين رحلوا من دون أن يتمكّنوا من الاستمتاع معنا بهرب الطاغية ونهاية حكم قميء، لم يترك سيّئةً أو ظلماً أو إجراماً إلا ومارسه على السوريين واللبنانيين والفلسطينيين. نستحضر الذين اغتالهم وعذّبهم وأخفاهم في سجونه، كلّ الذين أذلّهم على حواجزه، هدّدهم وكسر كبرياءهم، جرّح قلوب أمهاتهم وآبائهم وزوجاتهم وأبنائهم وأهاليهم وأصدقائهم. والحقّ أننا لو أحصيْنا من تأذّوا من النظام السوري البعثي، فلن يشذّ كثيرون، بل أن من سَلِموا سيطلعون من المتواطئين المتآمرين المستفيدين، الذين تنطبق عليهم فعلاً صفة الخيانة، لأنهم خونة ضمائرهم ومصلحة شعبهم.
الجحيم السوري، لن يدركه إلا من ذاقه، لذا سوف ترى اللبنانيين فرحين بهذه اللحظة بقدر إخوتهم السوريين. 53 عاماً وعائلة الأسد رازحةً على صدورهم، و30 عاماً والجزمة الأسدية رازحةً على قلوبنا. لقد عاث فينا الأسد الأب، ومن ثمّ الابن، خراباً وذلّاً لم نذق مثلهما من قبل، أو على الأقلّ، ليس بتلك الطريقة، إذ العسف والمهانة تبدآن منذ الحرف الأوّل الذي كان الجندي السوري يتلفّظ به على الحواجز: "هويتك ولاه"، مروراً بالاستدعاءات والتحقيقات والتهديدات والإخفاءات القسرية، وصولاً إلى الاغتيالات. هذا نظامٌ، بل كان نظاماً، لا يبثّ الرعب فقط، بل يمارسه في بكلّ حذافيره، ويبتكر أساليبَ تتفنّن في القهر والتعذيب والقتل.
يا إلهي، كيف نصدّق أن هذا كلّه انزاح عن صدورنا، كيف لا نبكي ونفرح ونرقُص ونرفُض أن نصغي إلى أولئك الغربان الذين ينعقون فوق رؤوسنا ويريدوننا أن نفكّر بالآتي واحتمالاته. اصمتوا، واتركوا لنا أن نفرح بهذه اللحظة مهما قصرت، أن نبكي ونهلّل وننحني لنقبلّ التراب، ونرفع أذرعَنا مبتهلين إلى السماء، سورية حرّة يا الله، لقد هرب الطاغية، بعد 14 عاماً من قيام الثورة، التي أجهضها المجرم بالنار والنابالم وبراميله المتفجّرة ضدّ أطفال شعبه وأفراده العزّل المساكين، واستقدَم لكي يبقى جيوش الأرض كلّها.
والحقّ يقال، أنا لم أكن أحبّ سورية، أعني أن مناخاً من الخوف والحذر كان يسيطر عليّ في أثناء زياراتي "القسرية" إليها، خلال سنوات الحرب الأهلية، حين كنت أضطرّ للنزول في مطارها، قبل التوجّه في زيارتي السنوية إلى لبنان، قادمةً من باريس، حيث كنت أتابع دراستي. كنتُ أقضي في دمشق بضعة أيام، في زيارة أصدقاء أحبّهم ويحبّوني ويحتفون بي، لكنّي كنت أشعر بنفورٍ من المكان حيث تنتشر صور الزعيم وتماثيله، ويكثُر المخبرون، وترزح الأخبار التي يتداولها أصدقائي على صدري وروحي. كانت سورية بالنسبة إليَّ سجناً كبيراً، وكانت كلّ تفاصيلها من ديكور هذا السجن المفتوح، الذي لم أكن أجد فيه أيَّ فرح حقيقي. أزور دمشق وقلبي مقبوض، وألسنة أصدقائي معقودة، وطيف "القائد المفدّى" الماثل في الصورة "إلى الأبد" تضفي رماديةً وصقيعاً على كلّ شيء.
ولم أكن أخاف، لكنّي كنت ألاقي الخوف في العيون كلّها، في اللغة اليومية وفي أسلوب العيش وفي الذي يُقال ولا يُقال. ذات مرّة، وكنا شبّاناً وفتياتٍ مكدّسين في سيارة صغيرة والدنيا ليل، ونحن متّجهون إلى سهرة ما، وأنا جالسة وسطهم في الخلف، والطريق صاعد ومعتم وفارغ. قيل لي: "هنا قصر الرئيس (حافظ)"، فرفعت إصبعي الصغيرة في ردّة فعل تلقائي إذ كنت بالكاد أتميّزه، وسألت: "هذا؟". فتهافت الجميع يطبقون على إصبعي المسكينة يُخفضونها مذعورين هامسين: "لا تشيري إليه، قد يروْننا" (!). إلى اليوم، وبعد مرور عديد السنوات على تلك الحادثة السخيفة، لا زلتُ أستذكرُها لأنها جسّدت لي معاني الخوف ودرجاته الكثيرة التي تعشّش في روح السوري، التي تمنع عليه حتى مُجرَّد الإشارة، في ليلٍ حالكٍ معتم، ومن عُمق سيارة ملأى بالركّاب.
هرب الطاغية وسقط النظام الأسدي، وأنا تصالحتُ وسورية، بل استعدتُها حرّةً جميلةً، وبكيتُ وصفّقتُ وهلّلتُ ورقصت، وها إنّ القلب قد أمن لها وارتاح. عِشتِ سورية أبيّةً حرّةً مستقلّةً. وعاش لبنان.