غزّة هي المقاومة والمقاومة هي غزّة
وحدها المقاومة، الكلمة الرصينة في محيط مُظلم من الإسفافِ السياسي، وابتذال المواقف وانتحالها، والقفز عليها والتعلّق فيها على طريقة الصبية الذين يركضون خلف العربات على الطريق. وحدها المقاومة، تبقى صانعة الإنجاز السياسي والعسكري خلال أكثر من أربعة عقود مضت، وضع فيها العرب سلاحهم وكدّسوه في المخازن حتى صَدأ، إذ لا يخرُج للاستخدام إلا مصوّبًا على الأخ والشقيق، فيما لا يفكر هذا السلاح أبدًا في أن يأخذ الوجهة الصحيحة.
تُهينهم إسرائيل، وتصفعهم، ثم تتبع كلّ صفعة بعبارة "خطأ غير مقصود"، فيفرحون ويسوّقون لشعوبهم أنّ الكيان الصهيوني اعتذر لهم رعبًا منهم، بينما الواقع ينطق كلّ يوم بأنّهم لا يُرعبون إلا شعوبهم، ولا يستعرضون ترسانتهم العسكرية إلا في الداخل، ولا يستعملونها إلا ضدّ أنفسهم.
قلتُ غير مرّة إنّ إبداع المقاومة الفلسطينية في الخمسين يومًا الماضية أزال الصدأ من فوق أنظمة تقبع في قصور حكمها مثل قطع من الخردة، ونفض الغبار عن حكومات بقيت مهملةً لا يتذكّرها أحد إلا حين تتحدّث عن فقرها وحاجتها لمزيد من القروض والمنح. لذا لا يُجافي الحقيقة القول إنّ المقاومة صاحبة فضل على النظام الرسمي العربي كلّه، والذي في معظمه يناصبها العداء ويكيد لها، بل ويتآمر عليها ويكرهها أكثر من كراهية الصهيوني لها، وهو ما عبّر عنه رئيس حكومة الاحتلال بعباراتٍ واضحةٍ وصريحةٍ قبل ساعات من انعقاد قمّة الرياض، فجاءت هذه القمة خلوًا من ذكر المقاومة أو الدفاع عن حقّ الشعب الفلسطيني في امتلاكها واستخدامها ضدّ العدو الذي يحتل أرضه.
هي صاحبة الفضل على محوري التطبيع وما يسمّى محور الممانعة، وأيضًا محور الترفيه الذي يتحيّن الفرصة للالتحاق بقطار التطبيع، فكانت ملحمة الصمود التي تدخل أسبوعها الثامن الباب الذي دخلت منه أنظمة الاستبداد العربي للاستثمار في القضية، بشّار الأسد نموذجًا والنظام المصري كذلك، ومعهما أطراف أخرى جاءت تغتسل من الدماء في بحر غزّة الصامدة.
حتى الذين يستدفئون بالغاز الطبيعي الذي تستولي عليه في أراضي ومياه فلسطين المحتلّة وتبيعه لهم نسوا ذلك كله، وانخرطوا في مجون مهرجانات وحفلات دعم الشعب الفلسطيني، الذين يفرضون عليه الحصار، ويخنقونه بإغلاق المعابر طوال أسابيع العدوان.
الذين كانوا يجاهرون بكراهية غزّة والتحريض على دكّ مقاومة "حماس"، صاروا يتراقصون ملفوفين بالأعلام الفلسطينية، ويسبون "العدو" الذي يبيعهم غاز فلسطين عبر خطوط أنابيب يقف على حراستها جنود أشدّاء... حتى أمين عام ما تسمّى جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، صاحب شعار "لتكسر رجل أيّ فلسطيني يعبُر إلى مصر فرارًا من القصف الصهيوني" صار ينتحل القضية، وهو الشخص الذي أمضى كلّ هذه السنوات في منصبه القومي من دون أن تطأ قدماه أرض غزّة، أو يفكّر في زيارتها مرّة واحدة، لا قبل العدوان ولا بعده.
الهدنة التي جرى التوّصل إليها بوساطة قطريةٍ خالصة، تنازعها فيها عواصم أخرى وتزعم لنفسها دورًا فيها وتُقيم المهرجانات احتفالًا بها في ملعب القاهرة قبل أن تدخل حيّز التنفيذ، هذه الهدنة هي إنجاز للمقاومة الفلسطينية بشكل أساس، إذ لولا بسالتها وصمودها في وجه الآلة العسكرية الإسرائيلية الأميركية، لما أذعن العدوّ ذليلًا مكسورًا لجهود الوساطة، ولما قبل بالهدنة، ذلك أنّه ما كان يفعل ذلك لولا ضربات المقاومة التي أوجعته وكسرت أنفه وذراعه العسكريتين.
كتائب المقاومة هي الجيش العربي الوحيد الذي يمارس العسكرية في معناها الحقيقي ومفهومها النقي، إن على مستوى الأداء الميداني أو من ناحية توجيه السلاح إلى حيث يجب توجيهه، وتعطي كلّ طلقة رصاص حقّها في اختيار المكان الذي تصوّب نحوه، تعرف عدوّها، وتقول له في عينه أنت العدو، لا تخشاه ولا تسعى لصداقته والتعاون معه، بينما هناك سبع دول عربية تشتري السلاح من المحتل الإسرائيلي، بحسب صحيفة معاريف الصهيونية في يونيو/ حزيران 2019.
لك أن تتخيّل لو كانت علاقة الأنظمة العربية بفلسطين ومقاومتها على القدر نفسه من الارتباط والالتزام اللذين يحكمان العلاقة الأميركية بإسرائيل وجيش احتلالها، وتسأل نفسك: هل كان الكيان الصهيوني ليجرؤ على الاستفراد بأطفال غزّة ونسائها وعجائزها بهذه الوحشية، وبهذا اليقين بأنّ أحدًا لن يستطيع ردعه ولا يريد ذلك؟
الحاصل أنهم تواطأوا ضد المقاومة، ولمّا حقّقت هذه المقاومة إنجازها أقاموا الحفلات المبتذلة انتحالًا لدور في هدنة لن تدوم إلا لثلاثة أيام أو أكثر قليلًا.
من يحبّ غزّة حقًا فليحافظ على مقاومتها، ولا يرقص لها مساءً ثم يتأمر عليها بالنهار، غزّة هي المقاومة والمقاومة هي غزّة، مثل علاقة الروح بالجسد.