غزّة ومقاومة التطبيع في المغرب
تلحّ المظاهرات، الحاشدة ومحدودة العدد، شبه اليومية في مدن المغرب، الكبرى والصغرى، على وقف التطبيع الذي يقيمه الحُكم في بلدهم مع دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ العام 2020، مناصرةً للشعب الفلسطيني في قطاع غزّة، وتأكيداً لموقفٍ ثابتٍ، يرفض أي صلةٍ مع الصهاينة. وقد سمع صاحب هذه السطور هتاف معتصمين، أمام مبنى البرلمان المغربي في شارع محمّد الخامس في الرباط، مساء الثلاثاء الماضي "الشعب يريد تجريم التطبيع". وليس هذا طارئاً أو مستجدّاً في غضون حرب الإبادة التي تستمرّ إسرائيل في ارتكابها في غزّة، فالتعبيراتُ عنه سابقة، بل مُستدامة (إذا جازت المفردة هنا). وكان المؤشّر العربي للعام 2022، (ينتظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في إصداره سنوياً) قد كشف أن 67% من المغاربة يعارضون الاعتراف بإسرائيل، و20% يوافقون، و13% لم يعطوا إجابات، على الرغم من "العلاقات الطبيعية" بين حكومة بلادهم وإسرائيل.
ويتصدّر مطلب تجريم التطبيع، إلى حدٍّ ما، صيحات المتظاهرين المغاربة في مسيرات الانتصار للمقاومة في غزّة. ولكن السلطة لا تلتفت إلى هذا المطلب الشعبي الواسع، ولا تكترث به، وإنْ يتحدّث الملك محمد السادس، في رسالته إلى قمّة منظمة التعاون الإسلامي في بانغول (عاصمة غينيا)، مطالع شهر مايو/ أيار الحالي، عن "العدوان الغاشم غير المسبوق" في غزّة، وعن "تهجيرٍ قسريٍّ وعقابٍ جماعيٍّ وأعمالٍ انتقامية"، وعن "ارتفاع الاعتداءات الممنهجة من المستوطنين المتطرّفين في الضفة الغربية بإيعاز من مسؤولين حكوميين إسرائيليين". وكان الملك، في رسالةٍ منه في اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، قد قال إن "تفاقم الكارثة الإنسانية في غزّة والتمادي في استهداف المدنيين يسائلان ضمير المجتمع الدولي".
وعندما يحدّثك عارفون إن جمعية العدل والإحسان، الإسلامية المحظورة، وكذا حزب العدالة والتنمية، الإسلامي أيضا، هما الأكثر نشاطا في تنظيم مسيرات دعم غزّة والقضية الفلسطينية، يكون مهمّاً أن تعرف أن هذا ليس دقيقاً تماماً، فـ"الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع"، والتي تضمّ عشرات الهيئات والمنظّمات المدنية التي تعارض العلاقات مع دولة الاحتلال، هي التي نظّمت المسيرة الاحتجاجية الحاشدة في الدار البيضاء (كبرى مدن المغرب)، مساء أول من أمس الأحد، وطالب المشاركون فيها في هتافاتهم بإسقاط التطبيع، من قبيل "فلسطين أمانة والتطبيع خيانة". وكانت الجبهة نفسها قد نشطت في تنظيم مسيراتٍ سابقة، أُحرق فيها العلم الإسرائيلي، وزيّنت بأعلام فلسطين. وكانت الجبهة قد جمعت توقيعات نخبٍ مغربيةٍ واسعةٍ على عريضةٍ بعدّة لغات، تُطالب المخزن (المؤسّسة الملكية) بالتراجع عن اتفاقيات التطبيع مع إسرائيل، ومواصلة النضال من أجل غلق ما يسمّى "مكتب الاتصال الصهيوني" في الرباط، مع دعم المحاصرين في قطاع غزّة، ووقف المذبحة هناك. ولا يُغفل أيضاً عن "مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين" التي تضمّ عدّة تكوينات، منها "المرصد المغربي لمناهضة التطبيع"، والتي تؤدّي نشاطاً ملحوظاً في هذا كله.
ولئن يُلاحَظ عبور أخبار غزّة ومسيرات التضامن معها إلى الصفحات الداخلية للصحف المغربية، الحزبية وغيرها، وكذا تخفّف أحزابٍ مغربيةٍ كبرى من المشاركة الفاعلة في هذه المسيرات، بعد نشاطٍ ملحوظٍ منها في هذه الفعاليات في الأسابيع الأولى للعدوان الإسرائيلي، ولئن يُلاحَظ أيضاً أن موضوع غزّة لم يعد في مقدّمة مداولات المغاربة في النقاش العام، إلا أن ذلك كله لا يعني أبداً انصرافاً عنه، ولا إغفاله وتناسيه، فملحّنون ومغنّون مغاربة يخصّصون أغنياتٍ لغزّة ("أنا غزّة رمز العزة"، غناء نعمان لحلو، مثلا)، والأمسيات الثقافية عن فلسطين وفنونها وآدابها قائمة، وإنْ لم تكُن في المعرض الدولي للكتاب في الرباط بالقدر المطلوب. وهذه أمسيةٌ غنائيةٌ لمارسيل خليفة في الرباط الأسبوع الجاري تشهد إقبالا واسعاً، وقد حضر في موسيقاتٍ جديدةٍ فيها شهداء غزّة وأطفالها.
إنها مسافةٌ ظاهرةٌ ومعلنةٌ بين الشعب والسلطة في المغرب، بشأن علاقات التطبيع السياسي والاقتصادي والتجاري (ليس الثقافي ممكناً أبداً) التي تقيمها هذه السلطة مع إسرائيل، مسافة ملحوظة في هتافات المغاربة الغاضبين، الذين يروْن العجز العربي عن نصرة فلسطينيين غزّة عاراً.. مسافة في وسع زائرٍ عابرٍ للمغرب أن يراها، بعينيْه، في شارع محمد الخامس في الرباط، وفي غيره.