غسّان الحبيب غسّان الجباعي
سمعتُ باسم غسّان الجباعي منذ زمن طويل، فهو معروفٌ بكونه مناضلاً عنيداً ضد استبداد نظام الأسد، لديه خدمة عشر سنوات في السجون والمعتقلات. عرفتُه أكثر حينما كنت أعمل في دائرة تقويم النصوص في التلفزيون السوري. وقتها وقع بين يدي مسلسل من تأليفه، يتناول الجماعة الدينية التي كان يقودها حسن الصبَّاح، ومركزها قلعة ألَموت. الغريب في ذلك المسلسل، بحسب ما استنتجتُ، أن مؤلفه لم يقع مرّة واحدة، على مدى الحلقات الثلاثين، في مطبّ إثارة حساسية دينية أو طائفية. وأذكر أنني أشدتُ بالعمل، ولكنه لم يُنتج، لأن هذا النوع من الأعمال يُحسب له ألف حساب.
في سنة 2013؛ فازت رواية غسّان الجباعي "قهوة الجنرال" بجائزة المزرعة التي أقيمت في مدينة أنطاكية التركية، بالتعاون بين رابطة الكتاب السوريين ورجل الأعمال السوري يحيى القضماني. وكنت أراسل غسّان، باسم الرابطة، ولاحظت أنه يخاطبني بجملة "خطيب الحبيب"، فصرت، منذ ذلك الوقت، أخاطبه بجملة "غسّان الحبيب"، دواليك حتى صارت ذاكرتي تستبدل اسمه تلقائياً، فكلما ذكر، أقول: غسّان الحبيب.
غسّان الحبيب، حقيقة، شخصية متناقضة، فشراسته في مواجهة سلطة الاستبداد تقابلها رقّة طفل. يحكي في فيلم "رحلة إلى الذاكرة" للمخرجة هالا محمد أنه تجرّأ، ذات مرّة، وسأل أحد ضباط السجن، عما إذا كان لديه أطفال، يضمّهم إلى صدره متى يشاء. أجابه الضابط بـ نعم، فأخبره أن ابنه الصغير يأتي لزيارته مع والدته، ويرى أحدهما الآخر من وراء الشباك، ومهما تطاول بيده داخل الشباك لكي يلمسه لا يستطيع. وكان لديه تفكيرٌ مثالي، بدليل أنه عندما اعتُقل كان يعتقد أنه لن يتعرّض لأية إهانة، فالجيش السوري جيشنا، والأمن أمننا.. ولكنه غيّر رأيه، عندما تلقى أول صفعة في فرع التحقيق.
في سنة 2015، احتلت حكايات غسّان عن السجون مساحة واسعة في كتابي "حكايات سورية لها علاقة بالاستبداد" (دار نون). نصوص غسّان عن السجن أقرب ما تكون إلى نصوص إبراهيم صموئيل، تحسّ وأنت تقرأها بشيءٍ من الحياد، فكأن السجن ليس سوى مكان فُرض على هذه الشخصيات الإنسانية أن تعيش فيه. يكتُب، في إحدى الحكايات: أحدهم يحكّ حبات الزيتون على الأرض، أو على الجدران، ليصنع سبحة أو عقداً. أحدُهم يجدل خيوطاً، أو يعالج ضلعاً من العظم، نظفه وخبأه من غداء البارحة، ليصنع منه قلماً ذا رأس مدبّب.. كانت الأوراق والأقلام ممنوعة، فصنعنا أقلاماً من العظام، وأوراقاً من سيلوفان علب السجائر. كنا نصقلها، لتصبح صفحاتٍ قابلة للكتابة بطريقة الضغط. وكنا نكتب عليها الأشعار والقصص والمقالات. حتى إننا أصدرنا جريدة كنا نعلقها على خيطٍ مشدود. كان أحدهم يكتب، وآخر يحفّ حجراً بحجر، لا ليشعل ناراً، بل ليصقل الواحد بواسطة الآخر. زوجان أو أكثر يلعبان الشطرنج المصنوع محلياً من العجين أو الخشب، على قطعةٍ من قماشٍ مخطّطة بالطباشير. أربعة أو خمسة أشخاص يتفرّجون على اللعب.. بعضهم يذهب باتجاه المرحاض، وآخرون يعودون منه. اثنان مستلقيان يناقشان بصوتٍ منخفض مفهوم الوطنية والدكتاتورية! أحدهم يحضن ركبتيه ويراقب الضوء عبر النافذة. أحدهم يتناوب مع جاره على سيجارة "ناعورة".
ولعل أجمل فصول غسّان هو الذي يحكي فيه عن أمّه، فتلك المرأة الممتلئة بالحب لم تكن تعرف شيئاً من المصطلحات التي يجري تداولها حولها. كانت تقول عن الديمقراطية (مقراطية)، وعن حافظ الأسد (حافظ الأسى).. وهذا العنوان وقع في نفس غسّان كالصاعقة.
وكان غسّان يراجع مواقفه بشكل دائم. أكثر شيء ندم عليه أنه، مرّة، كتب مسرحية، استبدل فيها ما يتعرّض له المواطن السوري من إجرام النظام الدكتاتوري بمواطن فلسطيني يعاني من بطش الصهاينة، وكتب نصّاً مدهشاً يوبّخ فيه نفسه لأنه ارتكب هذا التضليل.