غسّان كنفاني يكرّم نساء الرقّة
تأخذُنا جائزة غسّان كنفاني للرواية العربية في دورتها الأولى، المعلَنة أخيرا، إلى قراءة رواية السوري، المغيرة الهويدي (1979)، الفائزة، "قماش أسود" (دار تكوين، الكويت، 2020). ثم يأتي إلى البال أن غسّان، لمّا استلهم من شخصيةٍ حقيقيةٍ، ومن أجواء اللجوء والتهجير الفلسطينية في خيامٍ ومخيمات، روايته "أم سعد" (1969)، لم يكن في مقدور مخيّلته أن تتصوّر أن زمنا عربيا سيأتي، يستجدّ فيه تهجيرٌ ولجوءٌ كثيران في غير بلدٍ عربي، يفرّ فيه الناس من حاكمين يسودون عليهم بغير رايةٍ وراية، بحثا عن بعض أمان، إلى خيمٍ ومخيماتٍ في بلادهم وفي خارجها، وذلك بفعل استبداد الدولة الوطنية والإرهاب الذي تولّد في بطنها، لم يكن في وُسع غسّان أن يتخيّل أن الفلسطينيين سيُنتزَع منهم "احتكار" صفة اللاجئين والنازحين، وأن رواياتٍ عربيةً "سيستلهم" كتّابُها محكيّاتها من شخصياتٍ حقيقية، ومن أجواء اللجوء والتهجير العربية هذه، كما صنَع المغيرة الهويدي في روايته الأولى التي أحرزت تكريما من لجنة تحكيم مقدّرة، ترأسّتها الناقدة رزان إبراهيم (عضوية مصطفى الضبع، فخري صالح، سعيد يقطين، أمير تاج السر).
انشغلت "قماش أسود" بالمرأة في حالة لجوءٍ سوريةٍ من الإرهاب، وفي ظروفٍ شديدة القسوة، ممثلةً بنماذج من نساءٍ غالبْن صنوفا من التجبّر والقهر والاستخدام والعنف في منطقة الرقّة، وأتاح لهن المغيرة فضاء روايته ليحكين، ليسرُدن "قصصا سيئة"، و"القصص السيئة يجب أن تُسْرَد"، على ما أفضت الراوية الرئيسية، نسرين التي كانت تحيك عباءاتٍ سوداء في محلّ خياطة، ثم حاكت قصة المرأة السورية التي تواطأت ضد إنسانيتها وأنوثتها صنوفٌ من جحيم حياةٍ لا تُحتمل، تحت سلطة داعش، وسلطاتٍ غيرها قبلها وبعدها، حاكت هذه القصة، أو كثيرا منها، فيصير في الوُسع أن يقول واحدُنا إن غسّان كنفاني الذي كرّم اللاجئة الفلسطينية المقاتلة في روايةٍ خالدة، يكرّم، من خلال فوز رواية شابٍّ سوريٍّ بجائزةٍ تحمل اسمَه، نساء الرّقة، وهن يقاومن المحو الذي استُهدفن به بالحكي والقصّ والكشف عما في الحشايا.
قسا المغيرة الهويدي على قارئ روايته عندما أنهاها بما يوحي، أو ما لا يوحي، بأن المخيم الذي اجتمعت فيه الراوية، الشابة الجامعية، خيّاطة العباءات السود للنساء في زمن "داعش"، وآسيا المتزوجة من صاحب محلّ الخياطة، بعد ثلاث زيجاتٍ سابقة، وحليمة التي تموت، وأختها التي تموت أيضا، والحاجة زهرة الحكيمة المطمئنة، وأُخريات، قد زال، قد غيّب قصفُ طارئٌ من كانوا فيه. ثمّة ظلالٌ من هذا تُختتم بها الرواية، وتنجو نسرين، صاحبة الصوت البوّاح، الغالب في مسار النص وتضاعيفه، وإنْ يتقاطع مع أصوات غيرها. وكأن الكاتب أراد حماية هذا الصوت من التغييب. هذا ما ينطق به "النبش الأخير" في مختتم الرواية التي تتألف من 27 نبشا، وفي اختيار هذه التسمية لفصول العمل (أو مقطوعاته) ما يُلفت إلى المُراد العام لهذا المبنى الذي أقامه الروائي، أن يكون "نبشا" في العميق في دواخل النساء المقموعات في سورية، في لحظةٍ داعشيةٍ شديدة السواد، موصولةٍ بالعنف الجسدي الذي تتعرّض له نسرين من شقيقها الضابط في جيش النظام، وموصولةٍ بخوفٍ كثير، وقلقٍ وفير، ما بعد "داعش"، عندما "تحرّر" قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المنطقة. وفي الأثناء، كانت أحلام نسرين، التي تفوّقت في الجامعة، تموت، عليها أن تتعلّم خياطة الفساتين اللمّاعة، أخضر وأحمر وأصفر، "هذي ألوان الكرديات" (لا أدري إن ثمّة مرسلةٌ ما هنا؟)، بعد أن كانت تخيط العبايات والدروع السود. هي التي تقول إنها كان يمكن أن تكون معيدة في كلية الآداب، تركب سيارتها وتطوف شوارع مضاءةً بالأنوار والوجوه الملونة، مطلقةً شعرها للريح، ترتدي تنّورتها الجينز التي تحبّها على تيشرت أبيض، وتلفّ عنقها بشالها الملوّن، وتمشي في ممرّات الكلية مكتملةً بنظرات الإعجاب.
تفتقد نسرين مرآةً في خيمتها مع آسيا في مخيم النزوح، يأتي لها يوسُف الذي يظهر ويختفي بمرآة، وتقرأ مقاطع رهيفةً في الرواية تشفّ عن حضوره المحسوس الملتبس مع المتخيّل والحلمي والمُشتهى. يحدُث أن يثبّت عمود خيمتها لمّا هزّها المطر. .. ويحدُث أن تسأل نفسَك، لمّا تنهي قراءة "قماش أسود"، وفيها سوادٌ كثير، وأحزانٌ بلا عدّ، عمّا إذا كنت قد قرأتَ روايةً أم أمضيتَ وقتا بين تلك الخيام، واستمعت إلى أنفاس نساءٍ سورياتٍ معذّباتٍ كابدْن جحيما، ثم أغلقتَ دفّتي الرواية، وسألتَ نفسَك عمّا كان غسّان كنفاني سيكتُب لو علم بلجوءٍ عربيٍّ كالح كهذا؟