غير المنظور في قمّة القاهرة
النتيجة المباشرة الواضحة لما عُرفت بقمّة السلام التي استضافتها العاصمة القاهرة أول من أمس السبت، هي الفشل الكامل، قياساً على الهدف المعلن قبل عقدها، وهو دفع عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل وتأمين موقف عالمي ضاغط من أجل استئناف تلك العملية وفق أسس أكثر جدّية وعدلاً. ولا حاجة إلى تأكيد إخفاق القمّة في تحقيق ذاك الهدف، بل ولا الوصول حتى إلى توافق حول وقف إطلاق النار أو تعليق عمليات إسرائيل العسكرية داخل قطاع غزّة.
ومقابل هذا التعثر الكامل، تحقّقت نتائج ربما لم تكن مقصودة، وتكشّفت حقائق ودلالات، كان بعضها خافياً، وبعضها الآخر كان ظاهراً في السابق، ثم توارى أو تراجع بفعل التطورات وسياسات بعض الأطراف التي تعمّدت إخفاءها. ومن النتائج غير المقصودة لقمّة القاهرة بلورة وترسيم موقف مصري واضح ومحدّد برفض تهجير فلسطينيي غزّة إلى داخل سيناء المصرية. فرغم أنه موقفٌ معلنٌ منذ بداية الأزمة، إلا أنه كان مشوباً بعلامات استفهام، بل وربما شكوك في مدى جدّيته، لأسباب كثيرة ليس هذا مقامها. أما بعد قمّة القاهرة، وما سبقها من تظاهرات شعبية عارمة، بدأت منظّمة وانتهت تلقائية، أصبح رفض صفقة القرن أمراً واقعاً غير قابل للالتفاف عليه أو المناورة لتمريره.
النتيجة الثانية المهمّة أن قمّة القاهرة كشفت بوضوح عن حقيقة مواقف الدول المشاركة، العربية وغيرها. فبينما كانت مواقف الغرب صريحة ومباشرة ومحدّدة في دعم إسرائيل (ألمانيا وفرنسا وإيطاليا) وكذلك في تأييد الحقّ الفلسطيني (إسبانيا)، جاءت المواقف العربية عامة وخطابية ولم تتضمّن أي خطوة عملية مقترحة أو حتى تأكيد حق المقاومة في مواجهة الإبادة الجماعية التي تُمعن فيها إسرائيل بصلف وعنجهية.
في المقابل، فإن طرفي الأزمة الأساسيين اللذين كان في وسعهما الخروج من تلك القمّة بنتائج حقيقية، لم يشاركا من الأساس، وهما بالطبع إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية. والدلالة المهمة في ذلك أن هذه الفصائل بقيادة حركة حماس استعادت موقعها الطبيعي رقماً أساساً وجوهرياً في معادلة الصراع، بل وفي معادلات المشهد الإقليمي ككل. ولعل هذا بذاته سبب تمسّك إسرائيل هذه المرّة بالتخلص من الحركة والقضاء عليها نهائياً.
ورغم منطقية (وأخلاقية) إلغاء القمّة الرباعية التي كانت ستجمع الأردن ومصر وفلسطين والولايات المتحدة في عمّان قبل قمة القاهرة بيومين، إلا أن أسباب الإلغاء لم تنته، وظلّ القصف الإسرائيلي للمدارس والمشافي والكنائس مستمراً حتى في أثناء انعقاد قمّة القاهرة. الأمر الذي يثير التساؤل عما إذا كان إلغاء القمّة بالفعل اعتراضاً على القصف.
بعيداً عن الحكومات والكيانات، جرت أعمال القمّة فوق صفيح ساخن، فلم تقتصر التظاهرات على العواصم والمدن العربية، بل لم تقل حجماً وعنفواناً في الغرب، خصوصاً في لندن التي شهدت بالتوازي مع انعقاد قمّة القاهرة مسيرة ضخمة تأييداً للفلسطينيين، ورفضاً للمجازر التي ترتكبها إسرائيل. وفي ذلك إحياء مجدداً لحقيقة القضية الفلسطينية، على الأقل لدى قطاعات معتبرة من الرأي العام العربي والغربي معاً. وسيشكّل هذا الموقف الشعبي ضغطاً كبيراً على الحكومات، كما سيضع الإعلام الموالي لتلك الحكومات، سواء في الغرب أو في بعض الدول العربية. بالتأكيد، لم يتحرّك الرأي العام بسبب القمّة، لكن هزالها وانكشاف حكوماتها سيزيدان الرأي العام حدّة وخنقاً عليها.
مفاد ذلك كله أن المواقف الظاهرية والاختلالات الهيكلية في إدارة الصراع مع إسرائيل ومعادلاته كانت قائمة ومعروفة قبل قمّة السبت. لكنها تأكدت وأصبحت علنية ومفضوحة بعد القمّة. والأهم أن ذلك الحشد الكبير في القاهرة ربما يعجّل بتصحيح الاختلالات ويعيد تسكين الأطراف في مواقعها الصحيحة حسب سياساتها وقدراتها، ويضع مواقفها العلنية والفعلية كلاً في حجمه الحقيقي.