"فاغنر" ... جيش قطاع خاص
تفيد تقارير حربية من جبهة باخموت في منطقة دونيتسك الأوكرانية بأن مجموعة فاغنر الروسية شبه العسكرية توجد بقوة إلى جانب الجيش الروسي النظامي، وتحاول أن تُظهِر أنها تتقدّم وتُحرز انتصارات تفوق التي يقوم بها الجيش الروسي، وقد حدثت مواجهاتٌ إعلامية في ساحة المعركة بينها وبين الجيش الروسي على جبهة باخموت بالذات، لتقدِّم كل مجموعة إنجازاتها على الأرض، في حين أن الوضع العسكري قد تحوّل إلى ما يشبه حرب الخنادق، كما تقول التقارير في توصيفٍ يوضح الحالة المتجمّدة لحركة القوات من الطرفين، وحاجة كل الأطراف فيها إلى السلاح، وحاجة القوات الروسية إلى الرجال أكثر باعتبارها تفقد ستة جنود في مقابل كل جندي أوكراني! وقد لجأت مجموعة فاغنر التي تواجه، هي الأخرى، نقصا في الموارد البشرية إلى تجنيد السجناء، ليشاركوا في الحرب مقابل إطلاق سراحهم، وقد ظهر بالفعل بعض الأسرى من الجانب الروسي، وهم يعترفون بأنهم سجناء سابقون وجنودٌ حاليون، وكان وراء تحوّلهم هذا مجموعة فاغنر.
تعتبر "شركة" فاغنر نفسها جيشا خاصا يقدّم حزمة واسعة من الخدمات ذات الطبيعة العسكرية والاستخبارية، وحتى السياسية، فهي قادرةٌ كما تقول على إدارة العمليات العسكرية والحربية مباشرة، ويمكنها شنّ الحملات في أماكن متعدّدة من العالم، ولديها إمكانات القيام بالعمليات الخاصة والدقيقة، كالاغتيالات والاعتقالات، كما يمكنها تقديم خدمات التدريب التجسّسي والقتالي، ظهرت الأشكال الأولى لـ"فاغنر"، حين ضم بوتين شبه جزيرة القرم الأوكرانية، فيما سمّوا وقتها بالرجال الخضر، بعد ظهور تقارير عن رجال يرتدون الأخضر ومن دون رتب عسكرية يسيرون مع القوات الروسية الرسمية، ويشاركونها مهامّها، توسعت مهمات هؤلاء عبر روسيا والعالم، وظهر اسم فاغنر بشكل علني، بوصفه كيانا ضخما وقويا، بعد أن بدأت حكايات الاحتكاك والتنافس مع الجيش الروسي تظهر في البلاد. لا يعترف القانون الروسي بشركات من هذا النوع، ولا يعرف أحد ما هو الوضع الحقوقي لهذه الشركة، رغم أن لها رئيسا معروفا ومشهورا، يُدعى يفغيني بريغوجين، وله سيرة علنية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي.
يبدو أن روسيا استفادت من التراث الأميركي في مؤسسة الجيش المملوكة بالكامل للقطاع الخاص، وقد قرأت بدقّة وتمعّن تاريخ شركة بلاك ووتر (الماء الأسود)، التي تعرَّف الشرق الأوسط عليها في العراق، بعد أن شاركت بدايةً في أعمال الحراسة لأول مندوب سام أميركي هناك، بول بريمر، ثم توسّعت عقودها لتحمي المنشآت الحكومية والخاصة ذات الطبيعة الحيوية. كانت هذه المهمّة المعلنة، ولكن بعد تورّط "بلاك ووتر" في قتل مدنيين عراقيين أصبح الشكّ يسود المهمة الحقيقية لهذه الشركة التي قيل إنها تتعدّى مهمات الحراسة والأمن إلى مهمات إدارة السجون والتحقيقات والهجمات الخاصة. والأهم من ذلك كله أنها تجني الكثير من خلال وجودها العسكري، ولا تُدخل في معايير ما تكسبه قضايا النصر أو الهزيمة، فمنطلقاتها ربحية واستثمارية، وهمها الميزان المالي السنوي الذي يقدّم إلى المساهمين.
تتعدّى خطورة هذه المنظمات على العالم تأثيرها العسكري المباشر، فهي متبنّاة بشكل كامل من حكومات وإدارات سياسية، تستخدمها بشكل فعال خارج إطار القانون في أحيان كثيرة، وتعمل من دون أن تخضع لمعايير الحروب أو التدخّلات العسكرية، ولا يدخل ما ينتج عن عملياتها في المساءلة القانونية، وتبقى كل تصرّفاتها تحت نطاقٍ من السرّية، ما يجعل خطرها أكبر بكثير مما نعتقد، وتمهّد ربما للتخلي عن الحكومات أو تجاوز أوامرها لتنفيذ ما قد ترغب به جهةٌ سياسية ما. وهنا يشمل الأمر الدول الديمقراطية على الطريقة الغربية، كالولايات المتحدة، أو الدول ذات الطبيعة الديكتاتورية، كروسيا، ومنظمتا بلاك ووتر وفاغنر أدوات خطرة في أيدٍ قد لا تتصرّف بالنزاهة التي يجب أن يكون عليها رجال السياسة.