فراشةُ السعادة

05 يناير 2025

(ياسر صافي)

+ الخط -

مرّة أخرى، هي السابعةُ على التوالي، يتصدّر الفنلنديّون قائمةَ أسعد سُكّان العالم، بحسب تقرير السعادة العالمي لعام 2024، الصادر بمناسبة اليوم الدولي للسعادة، عن شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة. ومرّة أخرى، وباستثناء ثلاث دول، يحتلّ العرب نصف القائمة الثاني، وذيل الترتيب، متخاصمين مع السعادة كعادتهم، لا هي تلين لهم، ولا هم يقدرون عليها، كأنّها زمنهم المفقود وسرابهم الهارب.
اعتمدت المنظّمةُ الأممية، في تحديدها مفهوم السعادة، مجموعةً من المعايير؛ نصيب الفرد من الدخل الإجمالي؛ مستوى التغطية الصحيّة؛ مستوى التكافل الاجتماعي؛ حيويّة المجتمع المدني؛ متوسّط العمر؛ الإحساس بالحرّية في اتخاذ القرار؛ القدرة على مكافحة الفساد. معايير ماديّة في معظمها، تعلّق السعادة على مشجب الاقتصاد، وتجعلها في الأغلب حِكراً على دول قادرة على أن تكون "حاضنةً" بشكل ما. من ثمّ نفهم الكثير من التخبّط في ترتيب القائمة، إذ نرى السعادة منسوبةً إلى شعوبٍ مُستعمَرة منهوبة، نخرها الفساد وقهرها الاستبداد.
شعوبٌ كثيرة في أفريقيا، وآسيا، وأوروبا، وحتى في أميركا، تتقاسم مع العرب هذا "الفقر السعادي المدقع"، إلّا أنّ العرب لم "يفكّروا" في السعادة بقدر ما "فكّروا" في الشقاء. بينما احتفل الآخرون بهذه التيمة، وخصّوها بكثير من البحث والتحليل، واعتبروها مطلبَ المطالب وغاية الغايات، الأمر الذي جعل فيلسوفاً مثل الإنكليزي برتراند راسل (1970) يزعم، في مقدّمة أثره "الفوز بالسعادة"، أنّه لم يؤلّف كتاباً صالحاً للقراءة فحسب، ومفيداً للمهتمّين بالمسائل العلميّة فحسب، بل جاء بوصفة للتعساء كي يُصبحوا سعداء، لا أكثر ولا أقلّ (!)، كأنّ على قارئ كتابه أن يفركه مثلما كان بطل الحكاية يفرك قنديل علاء الدين.
لو صحّ هذا الزعم لتغيّر وجه العالم طبعاً، ولأصبح هذا الكتاب يُباع في أسواقنا جنباً إلى جنب مع الموادّ الغذائية، ولحَفظه أطفال المدارس عوضاً عن دروس المحفوظات، ولدفع من أجله العاطلون عن العمل آخر ملاليم في جيوبهم، بل لاعتبره أشقياؤنا دستوراً لهم، هم الذين يوجعهم هذا العالم ويُثخنهم جراحاً، فإذا هم متمزّقون بين ما يحلمون به وما يُحقّقونه، بين ما يفكّرون فيه وما يستطيعون قوله، بين ما يريدونه وما يستطيعونه، حتى إنّهم يتساءلون في أحيان كثيرة كثيراً: هل هم أحياء أم شُبِّهَ لهم؟
والحقّ أن برتراند راسل نفسه لم يكن سعيداً بالمعنى الذي دافع عنه في كتابه. صحيحٌ أنّه نجح ولمع، وحصل حتى على جائزة نوبل للآداب، إلّا أنّه لم يشعر يوماً بالسكينة التي دعا إليها. لقد هزّته أحداث بلاده وعصره، كما هزّته أحداث سيرته. يكفي أن نستعرض مراحل حياته العاطفيّة مثلاً، وهي معروفة، كي نرى أنّه خير برهان على صحّة ما ذهب إليه لويس أراغون (1982) حين قال: "ليس من حُبٍّ سعيد". قد يكون عثر على سعادته في ذلك التمزّق، ولعلّ السعادة في النهاية ليست إلّا في السعي إلى السعادة، إلّا إذا كانت، على رأي أشار مارسيل (1974)، "حصيلة كلّ ما لا نعرفه من التعاسة"، وهو المعنى الذي قد يكون ذهب إليه أبونا المتنبّي (965) حين قال: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعَمُ".
لكلٍّ سعادته طبعاً، وأندرها ما يحلم به مواطنو "الربع الخالي من السعادة". السعادة عندهم فراشة، دائماً جميلة، هشّة، "محلومة"، وهاربة، بينما هم مُثقَلون بجراحهم وبجراح الآخرين. عبثاً يلهثون وراءها. إنّهم لا يتقنون المشي فكيف يجرون معها؟ لا يحذقون الصمت فكيف يتكلّمونها؟ لا يحسنون الكلام فكيف "يصمتونها"؟ لا يُحبّون أنفسهم فكيف يُحبّونها؟ لا يستطيعون حتى الوصول إلى أنفسهم، فكيف يصلون إليها؟
إنّهم يقيمون في مفاصل الألم والأمل، فإذا هزّهم الوجع لاذوا بالسخرية. والسخرية في الحقيقة هي متراسهم الدفاعي، الذي يصبح عند اشتداد العاصفة منصّة هجوم. هجوم على غوايات القنوط، وارتطاماً بجدران اليأس، وتفكيكاً لشراك الاستسلام، وإيقاظاً للوعي بقيمة تجسير العلاقة بين الرغبة والعمل. الرغبة في السعادة والعمل من أجل تحقيقها. إنّه وعيٌ هشّ أحياناً، شقيٌّ في أغلب الأحيان، قد يصطدم بجدران الواقع الذاتي أو الموضوعي، وقد يُترجم عن شقائه بطرائق غريبة، من بينها الصمت، إلّا أنّه يظلّ مصرًّا على إقناع نفسه وإقناعنا، بأنّ السعادة فراشة، تهرب ممّن يُطاردها، لكنّه ما إن يشرع في العمل حتى تحطَّ على كتفه.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.