مغسلة الطغاة

15 ديسمبر 2024

(محمد شبعة)

+ الخط -

شيءٌ من "الديجا فو" يحفّ بنهاية كلّ طاغية عربيّ، كأنّ طغاتنا خرّيجو مدرسة واحدة، مع فوارق في الدرجة، لا في النوع. لاعبٌ عربيّ آخر لا يستخلص العبرة، ويظنّ أنّه يستطيع أن يحكم ضدّ شعبه، وأن يكون مَلِكاً مدى الحياة على رقعة الشطرنج، ناسياً أنّ مدرسة الطغاة لا يتخرّج منها إلّا البيادق. ومرّة أخرى، ينقضّ عليك فقهاء الأسوأ. ولعلّك تشاطرهم الكثير من مخاوفهم، إلّا أنّك لا تراها كافية للقبول بالطغيان. ولعلّك تسألهم: لماذا لا نعتقد أنّ الأفضل يمكن أن يأتي أيضاً؟ والأهمّ: لماذا لا نفكّر في الذي يجب أن نفعل كي يأتي الأفضل؟ لماذا لا تتذكّر ألّا تغيير بعيداً عن ثقافة المقاومة، وأنّ على كلّ من يخشى مخاطر اليوم التالي، أن يتوقف قليلاً ويسأل نفسه: هل هذا الخوفُ حقاً خوفٌ من المجهول، أم أنه مجرّد استسلام لما هو معلوم؟

سنة 1960 كان القرن العشرون يتنفّض من غبار النازيّة، حين أصدر الروماني إميل سيوران كتابه "تاريخ ويوتوبيا"، مؤكّداً أنّ "مدرسة الطغاة" ليست مكاناً، بقدر ما هي إمكانيّةٌ ثلاثيّةُ الأبعاد، تقع في نقطة التقاطع التاريخيّ بين ما هو نفسي وما هو مادّي، وتشهدُ تحوُّلَ محترف السياسة إلى حيوان مسعور، في ظروف يؤول فيها طغيانُه من قناعٍ إلى وجهٍ، ومن منهج في الحكم إلى تشبّث بالبقاء حتى الحضيض. لا يكتفي الطاغية بإرغام الآخرين على عبادته، بل هو في حاجةٍ إلى إيهام نفسه بأنّ ضحاياه يعبدونه حقّاً. وكي لا يترك مجالاً للشكّ في ذلك، يحاول أن يعقّم البلاد، كي لا تتّسع لأيّ منافس، مصفّياً المعارضين والموالين على حدٍّ سواء، بالغاً بالصراع السياسي دَرْكَ الجريمة ضدّ الإنسانيّة.

أمّا في سنة 2024، وبينما يتمرّغ القرن الجديد في عار النازيّة الصهيونيّة، فإنّنا نرى طغاة "المدرسة إيّاها" يُطرَدون، الواحد تلو الآخر، لكنّ مريديهم يصرّون على إعادتهم من باب "مغسلة الطغاة". نقصد تلك المنظومة التي ما انفكّوا ينطلون بها على ضحاياهم، والتي استطاعوا نشر تلاميذهم في دواليبها تحت أكثر من قناع. من ثمّ الإحساسُ بالقرف أمام كميّة النفاق العامّ، والأداء المسرحيّ الرديء، والقذارة "الإيتيقيّة" المتهاطلة من الصحف والفضائيّات وقنوات السوشيال ميديا، التي تدّعي الدهشة أمام مشاهد السجون، وقصص التعذيب، والقبور الجماعيّة، كأنّ أحداً لم يكن يعلم، في حين أنّ الجميع يعلمون.

ليس من شكٍّ في وجود مخاطر حقيقيّة، حافّةٍ باليوم التالي. إلّا أنّ هذه المخاطر مهما كانت، لا تشفع لبعضهم، على اليمين وعلى اليسار، في الموالاة وفي المعارضة، كي يغسلوا الطغاة من أدرانهم، وكي يرتقوا بتبيضهم طغاتهم إلى مرتبة الصناعة، كي لا نقول الفنّ. أولاً: من طريق تعميم سرديّة "القائد الضرورة"، الذي يجب ألّا يسقط، لأنّ في سقوطه (أو إسقاطه) انفتاحاً على "الأسوأ". وثانياً: من طريق تعميم مشهديّة "الاحتراب على الغنيمة"، فإذا نحن لا نخلص من طاغيةٍ إلّا خلَفَهُ من تَفوّق عليه، في الفساد والاستبداد الانفراد بالحكم، وفي تصحير الساحة من نخبها، وفي الزج بمخالفيه في السجون والمقابر. فإذا الجمهور يتحسَّر على العهد السابق، ويسفّه فكرة الديمقراطيّة، ويزهد فيها، ويحنّ من جديد إلى منقذ، سرعان ما يتحوّل إلى طاغية.

تلك السرديّة، وهذه المشهديّة، هما حجرا الأساس لمغسلة الطغاة. مغسلة يشرف على تدبيرها سدنةُ البروباغندا من كلّ اتّجاه، مستكثرين على الفرحين الفرح بسقوط طاغيتهم، بدعوى أنّهم لا يدركون المخاطر المقبلة. مستكثرين على الخائفين الخوف من "مؤامرات اليوم التالي". وكأنّ الفرح بإسقاط الطاغية يعني الاستخفاف بإمكانية وقوع البلاد في التقسيم والفوضى والحرب الأهليّة. والحقّ أنّه لا بدّ من الانتباه إلى أنّ تبييض الطغاة وغسلهم من أوساخهم، سببُهُ الخوف من الحريّة. خوف محترفي السياسة من حرّية الشعب. وخوف الشعب من تحمّل مسؤولية حرّيته. لن ينتصر الشعب على طغاته إلّا يوم ينتصر على خوفه من حرّيّته، ويكفّ عن الاغتسال في مغسلة الطغاة.

شاعر تونسي ومترجم من الفرنسية.
آدم فتحي
شاعر تونسي ... وشاعر غنائي ومترجم من الفرنسية.