فصول من دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في سياق نكبة فلسطين
أصدر الباحث الفلسطيني محمود محارب أخيرا كتاباً عنوانه "الحزب الشيوعي الإسرائيلي والنكبة: الموقف والدور" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت والدوحة، 2022، 232 صفحة). وللمؤلف كتاب آخر عنوانه "الحزب الشيوعي الاسرائيلي والقضية الفلسطينية: 1948 – 1981" (إصدار خاص، القدس، 1989). ويعالج المؤلف في كتابه الجديد دور الحزب الشيوعي الإسرائيلي في تأسيس دولة إسرائيل، وكيف انضم الشيوعيون اليهود إلى منظمة الهاغاناه العسكرية، وقاتلوا تحت لوائها، وشاركوا في تحقيق الانتصار الصهيوني في سنة 1948، وكيف ساهموا في بناء دولة إسرائيل في سنوات ما بعد النكبة الفلسطينية. وتستند هذه المعالجة إلى وثائق الحزب الشيوعي الإسرائيلي بالدرجة الأولى، وإلى مراجع عربية وعبرية مقبولة. وغاية الكتاب تفسير لماذا دعم الحزب الشيوعي إنشاء دولة للمستعمرين الصهيونيين في فلسطين، ولماذا كان موقف الحزب الشيوعي مطابقاً تماماً لمواقف دافيد بن غوريون من فكرة إنشاء دولة لليهود، ولمجريات حرب 1947-1948.
والمشكلة الأصلية، بحسب ما أرى، تكمن في الأساس التكويني والفكري للشيوعيين اليهود في فلسطين الذين رأوا في الصهيونية حركة تحرّر وطني تسعى إلى الاستقلال القومي على غرار حركات التحرّر الوطني في الصين وفيتنام وإندونيسيا وغيرها. ولذلك لم يتورّع أولئك الشيوعيون القدامى عن وصف الحرب ضد الفلسطينيين بأنها "عادلة وتقدمية وضد مؤامرات الامبريالية الأنكلوسكسونية وعملائها العرب" (ص59). والمعروف أن الشيوعي مئير فلنر وقّع وثيقة "استقلال" إسرائيل في سنة 1948، وأن موشي سنيه، قائد الهاغاناه بين 1940و 1946، أصبح رئيساً للحزب الشيوعي بعد انضمامه إليه في 1954، في وقت كان شموئيل ميكونيس أميناً عاماً.
ريبة وارتياب
ثمّة ركام من الريبة والارتياب في تاريخ الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وهذا الركام ارتفع حتى صار جبلاً جراء سياسات الحزب ومواقفه وسلوكه العملي. ففي 14/1/1948 وصفت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في أرض إسرائيل قوات الهاغاناه بأنها "جيش الشعب"، ودعت إلى تزويدها بالسلاح والعتاد، وإلى التطوّع في صفوفها (ص 45). ولم يتردّد حتى إميل حبيبي الفلسطيني في القول "إن الرفاق اليهود في صفوف الهاغاناه الذين قُتلوا في معارك 1948، سفكوا دماءهم دفاعاً عن الوطن" (انظر كلمته أمام المؤتمر الخامس عشر للحزب الشيوعي الإسرائيلي في: جورج كرزم، الحزب الشيوعي الإسرائيلي بين التناقض والممارسة، القدس منشورات الشعلة، 1993، وراجع: خضر محجز، إميل حبيبي: الوهم والحقيقة، دمشق – بيروت: دار قدس للنشر، 2006). وأصدرت اللجنة المركزية إياها بياناً دعت فيه إلى احتلال القدس الشرقية وضمّها إلى دولة إسرائيل. وأيّد الحزب الشيوعي احتلال الهاغاناه مدينتي اللد والرملة وقراهما (محمود محارب، ص 135)، وأيّد أيضاً عملية نحشون التي تضمّنت احتلال القرى العربية وطرد سكانها (ص 89). وتبنّى الحزب الشيوعي الرواية الإسرائيلية عن حرب 1947 – 1948 التي تجاهلت المجازر التي ارتكبها الصهيونيون بحق الفلسطينيين، وادّعت أن الفلسطينيين غادورا بلادهم بمحض إرادتهم، ونزولاً عند رأي قادتهم. وعلى هذا المنوال، تجاهل الحزب الشيوعي وقوع مجزرة دير ياسين (ص 93)، ولم يحتج على طرد العرب الفلسطينيين من مدينة طبرية ومحيطها (ص 95)، وراح يزعم أن سكان مدينة حيفا العرب غادروا مدينتهم بناء على دعوة بريطانيا وعملائهما لهم (ص 98). ولم يخجل ذلك الحزب من التباهي بأن الانتصار الذي حققته الهاغاناه في احتلال حيفا إنما هو "إنجاز مهم للييشوف في الحرب من أجل الاستقلال القومي" (ص 99).
لم يتورّع الشيوعيون القدامى عن وصف الحرب ضد الفلسطينيين بأنها "عادلة وتقدمية وضد مؤامرات الإمبريالية الأنكلوسكسونية وعملائها العرب"
هذا بعض ما كشف عنه كتاب محمود محارب، وهو ما كان معروفاً إلى حد كبير في الأوساط البحثية العربية. لكن المؤلف هنا يوثّق ذلك كله من المظانّ التي لا يرقى إليها الشك، فيكتب أن الحزب الشيوعي لم يلتزم أي بند من بنود قرار التقسيم، بل أيّد خرق إسرائيل ذلك القرار، وساند احتلال الهاغاناه أراضيَ عربية فلسطينية، ورفض انسحاب الجيش الإسرائيلي منها، بل إنه انتقد السلطات الإسرائيلية لعدم احتلال مناطق أوسع من التي احتُلّت (ص 10). وفي هذا الميدان، كان لافتاً ومشيناً أن العربي توفيق طوبي، عضو الكنيست، صوّت في تموز/ يوليو 1950 بالموافقة على قانون العودة اليهودي (ص 160)، ولم يطالب البتة بعودة اللاجئين الفلسطينيين (ص 176)، فيما دأب الحزب الشيوعي على رفض مقترحات فولك برنادوت الذي اغتالته عصابة ليحي الإرهابية في 17/9/1948، والتي نصّت على حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم من دون قيد أو شرط، واسترجاع ممتلكاتهم، وعلى ضمّ القدس والنقب إلى أراضي الدولة العربية بحسب قرار التقسيم رقم 181 لعام 1947. وأصرّ مئير فلنر في تصريح له نشرته كول هعام (10/8/1948) على أن بريطانيا والدول العربية هي المسؤولة عن نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين العرب لا إسرائيل (ص 148).
تاريخ من التنافر: المساواة والاندماج
حين نتكلّم على الحزب الشيوعي الإسرائيلي اليوم، ينصرف الذهن إلى حزب راكاح (القائمة الشيوعية الجديدة) الذي شكّل في إحدى المراحل حزب الفلسطينيين العرب في الأراضي المحتلة عام 1948، والذي جهد طويلاً في النضال من أجل مساواة العرب باليهود. أما الحزب الشيوعي الإسرائيلي القديم (ماكي) فهو صاحب التاريخ المتنافر والمتقلقل الذي خضع لتحولات متتالية، وظلّ كثيرون من أعضائه صهيونيين خالصين. وإذا كان من غير المستغرب أن يكون أعضاء كثيرون في الحزب الشيوعي الإسرائيلي صهيونيين، فإن الغريب حقاً هو مواقف الشيوعيين العرب وتقلّبها أيما تقلّب، ولا سيما في السنتين الحاسمتين 1947-1948. والشيوعية في فلسطين، كما هو معروف، لم تنشأ في البدايات في الوسط العربي، بل في أوساط الأقلية اليهودية المهاجرة، واشتُهر من الشيوعيين الأوائل ناحوم ليشينسكي (نحمان) وقسطنطين فايس (أفيغدور) وجوزف بيرمان (بيرس) وجوزف بيرغر (بارزيلاي) ويعقوب تيبر (إيلي) وماير كوبرمان وأبو زيام. أما أبو زيام فيدعى حاييم أورباخ، وصار أميناً عاماً للحزب الشيوعي الفلسطيني في سنة 1923. وفي تاريخ ذلك الحزب محطّات محيرة مثل وقوفه ضد انتفاضة 1929، وضد ثورة 1936. وقد أدّى موقفه من ثورة 1936 إلى تداعيات انتهت إلى انقسامه جزأين في سنة 1944: الحزب الشيوعي الفلسطيني (الحزب الشيوعي في أرض إسرائيل) بقيادة شموئيل ميكونيس ومئير فلنر، وعصبة التحرّر الوطني التي رفض معظم أعضائها قرار التقسيم، أمثال إميل توما وموسى الدجاني وبولس فرح. وفي تلك الفترة، وبالتحديد في 1946، اعترف الحزب الشيوعي الفلسطيني بأن اليهود في فلسطين أمة لها حق تقرير المصير. وكان من عقابيل نكبة 1948 أن عصبة التحرر الوطني، بقيادة فؤاد نصار وإميل حبيبي وتوفيق طوبي، شرعت في مفاوضات مع الحزب الشيوعي في أرض إسرائيل انتهت إلى حلّ العصبة نفسها، وإصدار مذكّرة تنتقد مواقفها السياسية السابقة، ولا سيما رفضها قرار التقسيم، وتتبنّى مواقف الحزب الشيوعي الأرض – إسرائيلي. وبناء على ذلك، اتحد الحزبان في حزب واحد في 18/10/1948 تحت اسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي (ماكي). ثم عاد إلى الانقسام في تشرين الأول/ أكتوبر 1965، وصار هناك حزب ماكي، بقيادة شموئيل ميكونيس وموشي سنيه، وحزب راكاح بقيادة مئير فلنر وإميل حبيبي وتوفيق طوبي (لمزيد من التفصيلات راجع: ماهر الشريف، الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين: 1919-1948، مركز الأبحاث في منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت، 1981).
ركام من الريبة والارتياب في تاريخ الحزب الشيوعي الإسرائيلي
ناضل الحزب الشيوعي ضد التمييز العنصري بين العرب الفلسطينيين واليهود، لكنه لم يستطع أن يقدّم تعريفاً إيجابياً لفكرة المساواة، وكان يعتقد أن المساواة تعني عدم التمييز فحسب، وهذا تعريف سلبي. أما التعريف الإيجابي فهو تحويل إسرائيل من دولة لليهود وحدهم إلى دولة لجميع مواطنيها (انظر: عزمي بشارة، العرب في إسرائيل: رؤية من الداخل، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008). وكان الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو صاحب شعار المساواة، أي أنه، بمعنى ما، صاحب فكرة الاندماج في الدولة الإسرائيلية ومؤسّساتها، بما في ذلك مؤسّساتها العسكرية والأمنية. وكان يفخر دائماً بأنه "حزب الوطنية الإسرائيلية والأممية البروليتارية"، لكنه عمل، تحت شعار المساواة، على تكييف الفلسطينيين في إسرائيل مع وجود دولة إسرائيل. والعرب الذين خضعوا للحكم العسكري بين 1948 و1966 ثم عادوا وخضعوا للتهميش والعنصرية بعد زوال الحكم العسكري، وجدوا في شعار المساواة أمراً ملائماً لهم. لكن المساواة، على جاذبية هذه الكلمة، تؤدّي أحياناً إلى الأسرلة، لأنها تتضمن دمج الأقلية العربية في المؤسسة الإسرائيلية من خلال الخدمة في الجيش على سبيل المثال. وحين كان العرب يرفعون شعار المساواة أو المواطنة المتساوية، كان الصهيونيون يردّون بالقول: إذا كنتم تريدون المساواة فعليكم أن تخدموا في الجيش الإسرائيلي. وعندما كان الفلسطينيون يجيبون: إننا عرب فلسطينيون، ومن المحال أن نخدم في جيش يحتل أراضيَ عربية فلسطينية، كان الإسرائيليون يحاجّون بالتالي: إذا كنتم فلسطينيين ولا تريدون الخدمة في الجيش الإسرائيلي، فيجب، والحال هذه، أن تقبلوا الالتحاق بالدولة الفلسطينية المقترحة في سياق تبادل الأرض.
الغائب الأساس في تشبث الحزب الشيوعي الاسرائيلي بشعار المساواة هو مسألة الهوية، وهو ما جعل المفكر الفلسطيني عزمي بشارة ينقل تلك المجادلات إلى طوْر فكري أرفع، فشدّد على الهوية القومية للفلسطينيين في إسرائيل، ورفع شعار "دولة لجميع مواطنيها"، مع أنه كان حاسماً في الاستنتاج أن من المحال أن تتحوّل إسرائيل إلى دولة ديمقراطية لجميع مواطنيها، لأنها، بكل بساطة، دولة يهودية بحسب "وثيقة الاستقلال"، لكنه أراد أن يكشف زيف الديمقراطية الإسرائيلية ويفضح عنصريتها، ويسهم في إيقاظ الهوية العربية للفلسطينيين في أراضي 1948 وترسيخها. وشدّد عزمي بشارة في كتاباته على أن العرب في إسرائيل ليسوا مجموعة مهاجرة كي تطالب بالمساواة والاندماج. ولأن إسرائيل دولة كولونيالية إحلالية، فإن المساواة لن تتحقق إلا إذا نُزعت الصفة الكولونيالية عنها، وهذا يعني أن الصراع القومي هو الأساس (راجع: عزمي بشارة، في نفي المنفى - حاوره صقر أبو فخر، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عمّان - بيروت، 2017).
المستور والمكشوف والمسكوت عنه
أرسل الحزب الشيوعي الإسرائيلي، في يناير/ كانون الثاني1947 اثنين من قادته، هما إلياهو غوجانسكي وروث لوبيتش، إلى الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية للاستحصال على الدعم العسكري والمساندة. وفي فبراير/ شباط 1948 سافر الأمين العام للحزب، شموئيل ميكونيس، إلى دول أوروبا الشرقية للغاية نفسها، حيث مكث فيها حتى 12/5/1948، أي قبل يومين من إعلان ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل، ثم عاد مجددًا ليبقى حتى يوليو/ تموز 1948. وفي هذا الكتاب، يفصّل محمود محارب وقائع زيارة ميكونيس تلك التي شملت رومانيا ويوغوسلافيا وبلغاريا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، ويروي كيف سعى ميكونيس إلى نقل يهود أوروبا الشرقية إلى إسرائيل تعزيزًا للوجود البشري، وكيف تمكّن من تأمين هجرة 250 ألف يهودي بين 1948 و1949 (ص 120). ويسرد المؤلف جوانب من لقاء ميكونيس والشيوعي البارز جورجي ديمتروف (ص 62) صاحب فكرة "الجبهة المتحدة" التي سئمنا منها لكثرة ترداد الشيوعيين لها في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته، خصوصًا هاشم علي محسن الذي ترجم فصولًا من كتاب ديمتروف "في الجبهة الوطنية المتحدة"، والتي جاءت ترجمة ساذجة وبائسة. والمفاجئ في كتاب محمود محارب أن ديمتروف قال لشموئيل ميكونيس في أثناء لقائهما في 8/4/1948: "لو لم أكن رئيسًا لحكومة بلغاريا لذهبت كي أحارب إلى جانبكم في حرب استقلالكم" (ص 62)، ثم وافق على طلب ميكونيس السماح ليهود بلغاريا بالهجرة إلى فلسطين للمساهمة في الحرب، ويشرح كيف اشترت بلغاريا عشرة مدافع من عيار 120 ملم من سويسرا وأرسلتها إلى الهاغاناه، علاوة على إرسال 400 عسكري يهودي بلغاري إلى إسرائيل لقتال الفلسطينيين، وكذلك السماح للهاغاناه باستعمال أحد المطارات البلغارية لنقل السلاح من تشيكوسلوفاكيا إلى إسرائيل (ص 61). وعلى غراره، استجاب فلاديسلاف غومولكا زعيم الحزب الشيوعي البولندي لمطالب ميكونيس في تنظيم دورات عسكرية على أراضي بولندا لضباط بولنديين يهود، ثم إرسالهم إلى فلسطين (ص 63 و64).
ناضل الحزب الشيوعي ضد التمييز العنصري بين العرب الفلسطينيين واليهود، لكنه لم يستطع أن يقدّم تعريفاً إيجابياً لفكرة المساواة
يبحث الكتاب أيضاً في دور السلاح التشيكوسلوفاكي في حسم نتائج حرب 1948، وكيف أسس الشيوعيون الإسرائيليون "الفيلق التشيكوسلوفاكي" للقتال في فلسطين، ويعرض لتدفق السلاح من تشيكوسلوفاكيا إلى الهاغاناه؛ فقد وصلت أول شحنة في 1/4/1948 وقوامها 4500 بندقية ومائتي مدفع رشاش وخمسة ملايين طلقة، فيما وصلت الشحنة الثانية في 12/5/1948.. وهكذا. غير أن المؤلف لم يأتِ، لا من بعيد أو قريب، على قصة ذهاب إميل حبيبي مع شموئيل ميكونيس إلى تشيكوسلوفاكيا وغيرها من الدول الشيوعية في يوليو/ تموز 1948 لشراء الأسلحة لمصلحة الهاغاناه. وإميل حبيبي مذكور في هذا الكتاب ثلاث مرات فقط، وفي سياق آخر. وكان الصحافي الفلسطيني لطفي مشعور كتب قصة مشاركة إميل حبيبي في جلب السلاح إلى الهاغاناه في صحيفة "الصنارة" في 8/4/1988. فرفع حبيبي دعوى قضائية ضده، وكسب الدعوى، ونال تعويضاً مالياً من لطفي مشعور اشترى به سيارة، ووضع عليها لافتة تقول: "هذا من فضل لطفي". لكن سميح القاسم كتب في مجلة "كل العرب" الصادرة في حيفا في 16/7/1993 مقالة بعنوان "التعريف بما هو معروف"، روى فيها تفصيلات رحلة إميل حبيبي برفقة شموئيل ميكونيس، ولم يجرؤ حبيبي على رفع دعوى قضائية ضد سميح القاسم، أو حتى الردّ على الاتهامات التي استندت إلى وقائع مادية لا لبس فيها (أنظر: خضر محجز، إميل حبيبي: الوهم والحقيقة، مصدر مذكور سابقاً). وكان على المؤلف إما نقض هذه الرواية أو نقدها أو الإضاءة عليها بالطريقة التي يراها ملائمة. ولا يُفصح الكتاب قط لماذا تجنّب الكاتب محمود محارب الخوض في هذه المسألة التي ما برحت متداولةً بقوة كلما تحدث اثنان عن إميل حبيبي. ثم إن الكاتب لم يستعمل مذكرات ميكونيس التي يروي فيها تفصيلات تلك الرحلة لإيضاح دور إميل حبيبي فيها، وكي تستقيم الرواية إما دحضاً أو نقضاً أو تقريظاً أو تعريضاً. والمسكوت عنه في هذه المسألة الحساسة ليس حياداً علمياً أو تجنباً لاصطياد الفضائح، بل حيدة عن العلم وعن التاريخ كعلم. وكنتُ أتمنى لو فعل الكاتب ذلك كي نهتدي بهديه ونستضيء برأيه بعد أن كتب لنا كتابًا لَجِبًا جعل فيه لكل أمر سببًا.