فلسطين تنتصر في بريطانيا
"إذا أعدتَ انتخابي نائباً مستقلّاً في إيسلنغتون نورث، أعدك بأن أدافع دائماً عن شعب غزّة، وعن الطريق الوحيد لتحقيق سلام عادل ودائم: إنهاء احتلال فلسطين". ذلك كان آخر نداء من زعيم حزب العمّال البريطاني السابق ورمزه الأشهر، جيريمي كوربين، في اللحظات الأخيرة قبل إغلاق صناديق الاقتراع، والبدء في الفرز وإعلان النتائج.
خاض كوربين، الذي نجحت جماعات النفوذ الصهيوني المتغلغلة في الحياة السياسية البريطانية في إزاحته من رئاسة حزب العمّال، انتخابات الأسبوع الماضي مُستقلّاً في مواجهة مرشّح حزب العمّال، من خلال برنامج يتضمن نقطتَين أساسيتَين. الأولى، إصلاحات اجتماعية تنحاز إلى الطبقات الفقيرة، في مواجهة ترسانة من القرارات والإجراءات الاقتصادية التي ضاعفت معاناة الشرائح البسيطة من المجتمع. والثانية، إعادة النظر في السياسة الخارجية لبريطانيا، وانحيازها المطلق للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، فكانت فلسطين حاضرة في قلب المعركة الانتخابية عاملاً مُهمّاً في اتجاهات التصويت، إذ سقط حزب المحافظين سقوطاً مُدوّياً بزعامة ريشي سوناك، المُؤيّد على طول الخط للسياسة الإسرائيلية، والمساند لجرائمها ضدّ الشعب الفلسطيني بالسلاح والمال.
فرضت نتائج الانتخابات على حزب العمّال مراجعة المواقف التي انفرد باتّخاذها رئيسه كير ستارمر، والقيادات العليا، وفيها انحياز صارخ للعدوان الإسرائيلي، غير أنّ الحضور الأكبر لفلسطين في المشهد الانتخابي البريطاني عبّر عن نفسه في الدائرة التي خاض فيها جيريمي كوربين السباق ضد مرشّح الحزب، وضدّ الحشد المضادّ من جماعات النفوذ الصهيونية، ومن حزب المحافظين أيضاً، ليكون فوزه بمقعد الدائرة فوزاً لفلسطين أيضاً، وإعلاناً صريحاً وصادقاً عن نقاء القضية التي ناضل كوربين وملايين البريطانيين، الذين يخرجون كلّ أسبوع في تظاهرات ومسيرات حاشدة، من أجلها، وقد عبّر كوربين عن ذلك بالقول عشية إجراء الانتخابات: "اليوم فلسطين في صناديق الاقتراع".
علاقة كوربين بقضية فلسطين مُمتدّة سنوات عديدة فائتة، شهدت معارك عديدة في مواجهة الاحتلال الصهيوني وداعميه في المجتمع السياسي البريطاني، وهي المعارك التي كلّفته رئاسة حزب العمّال وعضويته فيه، إذ عُلّقت عضويته، ثمّ صدر قرار فصله في أكتوبر/تشرين الأول 2020، بعد مؤامرة صهيونية مُحْكَمَة اتّهمته بمعاداة الساميّة لأنّه ينتقد إسرائيل. قال كوربين في العام 2009، في اجتماع استضافه ائتلاف "أوقفوا الحرب"، إنّه دعا كلّ من حركة حماس وحزب الله إلى الحديث في البرلمان البريطاني، مُعتبراً "حماس" مُنظّمة مُكرّسة من أجل مصلحة الشعب الفلسطيني، وأنّ تصنيفها من الحكومة البريطانية مُنظّمةً إرهابيةً خطأ تاريخي كبير للغاية. وفي العام الذي يليه (2010)، قال كوربين إنّ بعض خُطَبِ أعضاء البرلمان البريطاني تكون مُعدَّة مسبقاً من إسرائيل: "أنا متأكّد من أن صديقنا السفير الإسرائيلي رون بروسور كتبها".
على أنّ أهم ما في انتصار كوربين في الانتخابات أخيراً، أنّه يعيد الاعتبار للقيم الإنسانية المُحترَمة؛ العدالة والدفاع عن الحقّ والوقوف ضدّ الظلم، كما يعيد التأكيد على أنّ العالم لم ينتحر أخلاقيّاً بعد، وهو ما يأتي في سياق من الإشارات المُهمّة في مستوى العالم كلّه، أكثرها أهمّية الانتفاضات الباهرة لطلاب الجامعات في الولايات المتّحدة وبريطانيا، وفي دول أخرى في أوروبا وآسيا، التي أعادت الثقة في الضمير الإنساني، وقدرته على تحدّي جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، التي يمارسها الاحتلال الصهيوني في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة.
انتصر كوربين في معركة الأخلاق قبل أن يفوز في صراع السياسة، وبعد النصر قال بكلمات بسيطة: "انتصارنا هو لمحة لمستقبل مختلف، يضع مصالح الأغلبية فوق مصالح القلّة، وهو بمثابة تحذير للحكومة الجديدة أنّ الأمل في عالم أفضل لا يمكن أن ينطفئ أبداً".
نعم، هو انتصار يعيد الأمل بعالم يدار بأخلاق الإنسان، لا بمخالب الوحوش الضارية وأنيابها.