فلسطين في حرب أوكرانيا
ثمّة ملامح عربية في حرب أوكرانيا التي بدأتها روسيا قبل أيام، فعلى الرغم من الاختلافات في الظروف والمعطيات بين الروس والفلسطينيين، إلا أن استدراج واشنطن موسكو يشبه كثيراً ما تفعله إسرائيل مع الفلسطينيين من استفزاز وقمع وتشكيك وتشويه أمام العالم.
تفتري تل أبيب على الفلسطينيين، وتدّعي كذباً أنهم إرهابيون، ويتربّصون بيهود إسرائيل "الطيبين المسالمين". فيما هي تخنق أولئك الفلسطينيين "الإرهابيين" وتطردهم من ديارهم، وتعتقل رجالهم وتُشرّد أسرهم، وتحرم أولادهم من الحق في الحياة، فقط الحياة والبقاء فوق أرضهم. وتحت وطأة الاستفزاز والقمع والإمعان في اختراق حدود الصبر، وكسر كل قدرة على التحمّل والتعايش، يضطر شاب فلسطيني هنا، أو فتى هناك، إلى إلقاء حجر أو رفع سكين في وجه قاتل أبيه، أو سارق أرضه. وفجأة يصبح هذا الشاب أو ذاك الفتى مجرماً وإرهابياً يستهدف بشروره المدنيين الإسرائيليين الأبرياء!
شهدت السنوات الماضية التسلسل نفسه بين واشنطن وموسكو، ثم وصل إلى ذروته في الأسابيع الماضية، فقد جرجرت واشنطن حلف الناتو وراءها إلى قلب المجال الحيوي الروسي. وبعد أن مثّلت فترة رئاسة دونالد ترامب حقبة استثنائية، ابتعدت فيها واشنطن عن "الناتو"، بل ووجهت له إهانات مُخزية، مقابل تقارب غير مفهوم ولا مبرّر مع موسكو. أراد الرئيس بايدن تعويض تلك الفترة الضائعة من عمر الحلف، فبادرت إدارته إلى التحرّش بموسكو بأكثر من وجه. أكثرها سفوراً إعلان نية ضم أوكرانيا إلى الحلف، والتلويح بنشر الصواريخ الأميركية على بعد مائتي ميل فقط من موسكو.
ووضح تماماً أن لدى واشنطن عزماً أكيداً على استفزاز الروس، واللعب على وتر الكبرياء القيصرية، وتأكد ذلك بإنكار أية وعود أو تفاهمات غير مكتوبة مع موسكو خلال فترة انهيار الاتحاد السوفيتي، والتي كان من بينها التزام الغرب بعدم ضم الجمهوريات السوفيتية السابقة الملاصقة للحدود الروسية، إلى حلف الناتو.
طوال الأسابيع التي سبقت الزحف العسكري الروسي نحو أوكرانيا، لم تكن واشنطن تُحذر، ولا حتى تتوقع، وإنما كانت "تسعى" إلى أن تغزو روسيا أوكرانيا. ومما يؤكد هذا التراجع الكبير في الخطاب الدعائي الأميركي والأوروبي، من التشجيع والتحريض للسلطات في كييف، وتأكيد أن الغرب سيحمي أوكرانيا، إلى الاكتفاء بإدانة موسكو وفرض عقوباتٍ، واشنطن أول من تعلم أنها لن تؤلم بوتين ورفاقه، وإنما ستؤذي المواطنين الروس. فضلاً عن أن العقوبات لن تعيد السيادة الأوكرانية، ولن ترد الجيش الأحمر على عقبيه.
إنها المشاهد نفسها والمواقف نفسها مع تغير الأطراف والمواقع. ومع اختلاف ميزان القوة بين الأطراف، تختلف أيضاً درجة العنف وحجم الخسائر، لكن التسلسل واحد والتطورات متشابهة، فروسيا الضعيفة، مقارنة بالغرب، لا تملك مقارعته فعلياً، لا عسكرياً ولا اقتصادياً، فجاء التحرّش الغربي بها لتوريطها واستغلال أطماع بوتين ومساعيه لإحياء تاريخ روسيا واستعادة الماضي القيصري، أو على الأقل السوفيتي. فيما تستفز تل أبيب الفلسطينيين، وتستدرجهم إلى مواجهاتٍ لا قبل لهم بها، ردّاً على دفاعهم عن أنفسهم وإصرارهم على نيل حقوقهم المسلوبة. وكما يتفرّج العالم وأوروبا، خصوصاً على أوكرانيا، وهي تُحتل ويُشرَد أهلها، فإن العالم نفسه، والعرب خصوصاً، يتفرّجون على الفلسطينيين، وهم يُذبحون ويحاصَرون ويُطردون.
التشابهات بين الحالتين كثيرة. أما الفوارق فأهمها أن الغرب يستهدف إرهاق روسيا واستنزاف قدراتها وإجبارها على الانصياع والابتعاد عن الصين، أي هدف مصلحي وبراغماتي. بينما قمع الفلسطينيين وعقابهم على تمسّكهم بحقهم التاريخي الديني الأخلاقي في أرضهم، فليس إلا لتصفية القضية وتزييف معادلتها من نضال ضد احتلال إلى إرهاب مزعوم.