فيلم تركي طويل
ما تستطيع أن تُخبر عنه في جملةٍ من تسع كلماتٍ لا تكتبْه في عشر. ... هذه واحدةٌ من قواعد ثمينةٍ عندنا، نحن الذين نعمل في الصحافة، وهي تعني النأي الواجب (وشديد الإلحاح) عن الإطناب والاسترسال والثرثرة والإسهاب والحشو، وعن اللتّ والعجن. وليس من التزيّد في شيءٍ أن يُجري واحدُنا هذا الوجوب على كل كتابةٍ، ومنها الإبداعية، وكذا على كلّ فنٍّ، سرديٍّ أو مشهدي. مع التشديد، في الوقت نفسه، على أن المُعاب هو التطويل وليس الطول، فليس منقصةً أن يكون نصٌّ طويلاً، وإنما ما قد يُعايَن فيه من تطويلٍ ظاهر. وكذلك في العمل المسرحي أو السينمائي.
دخولاً في الموضوع، ولكي لا يُرمى صاحبُ هذه الكلمات بأنه ينهى عن شيءٍ ويأتي مثله، أقول إن تطويلاً في الفيلم التركي "عن الأعشاب الجافّة" ضربَ جمالاً متحقّقا فيه. دخلنا صالة العرض في متحف الفن الإسلامي في الدوحة (ضمن عروض "قمرة" في نسخته العاشرة)، مساء الثلاثاء الماضي، وفينا ما علمناه وقرأناه عنه وعن مُخرجه، نوري بيلجي جيلان (1959)، الحائز فيلمُه الأسبق "سبات شتوي" على السعفة الذهبية في مهرجان كان في 2014. بدا ظاهراً أن المخرج تعمّد هذا الطول لفيلمه، وقد أغواه، على الأغلب، حضورُ كاميراتِه وفريقِه في قريةٍ بعيدةٍ في شرق تركيا، حيث الثلوج في شتاءٍ شديد البرودة، وربما جاء إلى باله أن الفكرة البسيطة، العميقة، والتي اشتغل عليها السيناريو والإخراج، تحتاج مشاهد أكثر، يُراد منها الإيضاح والتفصيل. وبهذا إمّا غاب عن المخرج، القدير من قبلُ ومن بعد، أن في الإيحاء جمالاً يبدّده الإسرافُ في الوضوح، وأن المخاتلة، بالصورة أو الاستيهام أو غيرهما، تُسعف جيّداً في توسّل البهجة والإمتاع، أو أنه يعرف هذا مذهباً عند من يعتنقه من أهل الإبداع وصنّاع الفنون، غير أنه لا يستأنس به، فيسلُك أسلوبَه الذي عوين في فيلمِه هذا الذي لا يكترث فيه بمن لا يستحسنون الحوارات المطوّلة، التي تخوض في غير شأنٍ، ولا بمن يشاهدون الفيلم وهم ينظرون إلى ساعاتهم. يبدو أن نوري بيلجي جيلان يغلّب خيارَه الذي يُريد على زعل هؤلاء، وصاحبُ هذه السطور منهم.
ثلاثُ ساعاتٍ ونصف الساعة (وأكثر قليلا) مدّة "عن الأعشاب الجافّة". والحكاية عن مدرّس للرسم في مدرسة متوسّطة (إعدادية؟) في قرية نائية، الثلوج فيها غزيرة وشديدة (تبدو وديعةً وأليفة)، لا يرتاح لخدمته الإلزامية في هذا المكان، ويتطلّع إلى الانتقال إلى إسطنبول. يشاركه في المسكن زميلٌ له. يتعرّف إلى شابّةٍ مثقفة يسارية، مُعاقة في إحدى ساقيْها بسبب إصابتها في تفجير (هل في الأمر إيحاءٌ بإعاقة اليسار التركي؟). يستهويها زميلُه (الطريف نوعاً ما)، لكنه يستطيع أن يُحرِز ميلََها له، فيزورُها مساءً، وحدَه، في مسكنها غير القريب، يتناقشان ويتجادلان (عن الوجود والحياة والواقع والظروف والأشواق والأيديولوجيات... إلخ)، ويبيت عندها. قبل هذا، يتعرّض المدرّس وزميلُه إلى ما يشبه المساءلة بسبب ما قيل إنه تجاوزٌ منه حدودَ صلته بتلاميذِه، وبالذات من تلميذةٍ منهم. يتعامل مع الأمر بتوتّر، وهو الذي تستبدُّ به مشاعرُ وأفكارٌ فوقية، تكاد تكون عنصريةً، تجاه البيئة التي يكون فيها (نعرف منه أن زميله وتلك الشابّة علويان، ويأتي على هذا مرّتين. ونلحظ على جدار غرفة الجلوس في بيت الشابّة "اليسارية" صورة الإمام علي بين رسوماتٍ لها). ... هذا شبه إيجازٍ (مخلٍّ) للخيط الحكائي في الفيلم الذي لا يبدو معنيّاً بأفكارٍ كبرى، ولا بقضيةٍ عامة، وإنما بتوتّر المشاعر الفردية ومكابدة أحاسيس شخصيةٍ ومساءلة الذات نفسَها بشأن مصيرِها وأقدارها. يُساعد على تبيّن هذا كله (وغيرِه) المزاج المتقلّب والقلق الذي يتّصف به المدرّس، وكان أداء الممثّل دورَه موفّقاً، سيّما في التعبير عن تناقضاتٍ ظاهرةٍ في شخصه، بل وانتهازيّته أحياناً، وتعاليه على من حولَه، وهو عاشقُ التصوير والرسّام، ما قد يعني توّقع أن يكون أكثر استشعاراً لأحاسيس الآخرين وتقديرِها.
حقولٌ ووديانٌ وثلوجٌ ومياهٌ، وصور عريضةُ، بانوراميةٌ وذات جمالياتٍ تنشدّ إليها العيون، تنبسط فيها مشاهد الثلج الذي ترتديه القرية ويظلّل الفضاء كله، مع تفاصيل قروية، ولقطات في داخل بيوتٍ وغرفٍ ضيقة، فيما الخارج فسيحٌ، ويذكّر هذا، أو بعضُه، صاحبَ هذه الكلمات بأفلامٍ روسيةٍ شاهدَها قبل زمن. ... ابتهجنْا بالمشهديّات المشغولة باحتراف مُخرجٍ مجتهد، وبأداء الممثلين الذي تتبدّى فيه عفويةٌ طلْقة. وسرّتنا تلك الإيحاءاتُ المبثوثةُ في تفاصيل تتابعت، ولو أن الإيقاع العام لمسار الفيلم صار يضرب المتفرّج بمللٍ تسبّبت به مشاهدُ زائدة، كان حذفُها أجدى وأوْفَق، فما في وُسعِك أن تقولًه في أربعة مشاهد لا تقلْه في خمسة.