في أوجُه مأساة درنة
مرّت أيام على إعصار دانيال في مدينة درنة الليبية، ولا تتوفر حتى اللحظة أعداد نهائية وحقيقية، أو حتى مقاربة للحقيقة، للضحايا، فالحكومات المنقسمة في البلاد كل منها تدلي بدلوها، وكلٌ تقود في الاتجاه الذي تراه مناسباً، والحقيقة غائبة كغياب مباني درنة الزاهرة في وَحْل تُربتها وأوديتها، ويبقى سكانها حيارى في وظن ممزّق، وبيوت مدمّرة، وبحث عن الأهل بين الموتى والمفقودين.
أرقام تصدمنا بها مؤسّسات دولية، ولا تحرك تجاهها السلطات الداخلية تأكيداً أو نفياً، فقد أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في 16 سبتمبر/ أيلول الجاري، عن 11 ألفا و470 من الموتى، وعشرة آلاف ومائة مفقود، و40 ألف نازح. وإلى كتابة هذه السطور، ما زالت جهود فرق البحث والإنقاذ المحلية والأجنبية تتواصل، أملا في العثور على ناجين تحت الطمي والأنقاض، أو التعرّف إلى جثث المفقودين، خصوصا في ظل أعداد كبيرة من الأشخاص جرفتهم السيول نحو البحر، وتؤرّق نسبة الانتشال أو التعرف إلى المفقودين أهل درنة والمنكوبين.
هذه المأساة، بكل أبعادها الإنسانية في درنة، صور مؤلمة، وحطام وركام، وقلوب منفطرة، وأخرى مكلومة تبحث عن بصيص أمل لإنقاذ من يمكن إنقاذهم، تقابلها في الجانب الآخر مأساة "سياسية"، إن جاز لنا الوصف والتحديد، فالانقسام السياسي بين الساسة كان حاضرا في هذه الأزمة، بل وحتى المناكفات السياسية كانت تلعب دوراً فيها، الأمر الذي أثّرَ سلبا بطريقة أو أخرى في هذه الكارثة.
وفي خضم هذا المأساة السياسية التي تعيشها البلاد، والتي لا تقلّ عن المأساة الإنسانية في درنة، خرج من رحمها حراك يطالب بإسقاط الأجسام السياسية التي تمترست في السلطة منذ سنوات، ولا غطاء شرعيا أو قانونيا لها، سواء الاتفاقيات السياسية القاصرة التي يغيب عنها الشعب ويحضر فيها من لا ترضيه القاعدة الشعبية على أقلّ تقدير، ففي 18 سبتمبر/ أيلول الحالي، تظاهر مئات في حي الصحابة الذي كان له نصيب كبير من الإعصار والدمار والفيضان، تعبيرا عن غضبهم من الأجسام السياسية التي في البلاد، بل وطالبوا بمحاسبة المسؤولين، وليرتفع سقفهم بالتنديد بالبرلمان ورئيسه في شرق البلاد، ومطالبة البرلمان ومن على شاكلته بالرحيل، والذي أنتج فارقة وسابقة لم تكن لغيره من قبل، عندما أعلن عن جلسة طارئة بعد الحادثة بأربعة أيام، وكأن الكارثة تنتظر، ويمكن الاستدراك ولو بعد حين!
مأساة درنة الإنسانية دقّت ناقوس خطر ضياع الدولة والعبث فيها، والتي ستكون فارقة يذكرها التاريخ إنسانياً وسياسياً، وما كان قبلها لن يكون بعدها
وليكن بيان أهالي درنة في هذه المظاهرة التعبير الحقيقي والوجداني الذي يعبر عنهم، بل وعن الليبيين كافة، حيث دعوا النائب العام إلى الإسراع في إعلان نتائج التحقيق في الكارثة، واتخاذ الإجراءات القانونية والقضائية كافة ضد كل من له يد في إهمال أو سرقات أدّت إليها، من دون التستر على أي مجرم، مطالبين بالبدء الفعلي والعاجل بعملية إعادة إعمار درنة وتعويض المتضرّرين، مؤكدين على ضرورة حل مجلس وحكماء مدينة درنة وإعادة تشكيله، ناهيك عن المطالبة بالتحقيق في الميزانيات السابقة التي خصّصت للمدينة. وكأنهم بذلك رفعوا شعارا وطالبوا كل الليبيين بأن يحذو حذوهم، وهو شعار "إيجاد دولة"، إذ تقوم بهذه المطالب الدولة التي تبنى على الشرعية الحقيقية من القاعدة الشعبية، لا من الاتفاقيات السياسية التي تُفسد أكثر مما تصلح.
جاءت مطالب المتظاهرين في درنة في لحظة رهيبة من الزمن في عمر الدولة الليبية، وفي مكان له خصوصيته التاريخية والثقافية حول مسجد الصحابة في المدينة التي لها الحق في أن يكون لها أثر في الواقع السياسي الليبي القريب، ولا بد من التضامن حولها، ليس لأجلها فحسب، بل من أجل البلاد كافة، استردادا للحقوق السياسية التي ضيّعها وتاجر بها السياسيون، ولإنهاء مسلسل العبث والانهيار السياسي الحاصل في البلاد منذ سنوات، فمأساة درنة الإنسانية دقّت ناقوس خطر ضياع الدولة والعبث فيها، والتي ستكون فارقة يذكرها التاريخ إنسانياً وسياسياً، وما كان قبلها لن يكون بعدها، وإن غداً لناظره لقريب.