في أوهام استقالة قرداحي
قدّم وزير الاعلام اللبناني، جورج قرداحي، نهار الجمعة الواقع فيه 3 ديسمبر/ كانون الأول 2021، استقالته من منصبه في الجمهورية اللبنانية. وكان قد اكتفى بجملة: "أتقدّم إليكم بطلب استقالتي من منصبي كوزير للإعلام، تقديمًا للصالح العام. وأتمنى منكم قبول الطلب". على اعتبار أن أمر الاستقالة يمكن أن يساعد في "حلحلة الأزمة بين لبنان ودول الخليج العربي"، خصوصًا أن قرداحي نفسه، قال منذ اليوم الأول للأزمة التي أحدثها تصريحٌ سابقٌ له بشأن الحرب في اليمن، إنه على استعداد للقيام بخطوةٍ كهذه، في حال كانت ستأتي "بفائدةٍ ما" على طريق المعالجة.
يضعنا شكل الاستقالة وتوقيتها أمام أسئلة لا تعد ولا تُحصى، سيما وأنها كانت بمبادرةٍ تجاه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي يحاول أن يعمل على إعادة وصل ما انقطع بين لبنان ودول الخليج، بهدف تعزيز المبادرة التي أتى هو بها، ويحاول إعادة إنتاج الصيغة اللبنانية عقب انفجار المرفأ من خلالها، فماكرون يحمي مبادرته التي أنتجت الحكومة الحالية العرجاء، ويحمي أيضًا الحكومة نفسها بهدف حماية النظام سبب الانهيار في لبنان، والمرفوض من المعارضة. ويضع هذا الأمر كل محاولة التشدّق بالكلام عن مفاهيم "السيادة"، وعن قيم "الدولة" و"الجمهورية"، في مهبّ الريح. فبعد هيمنة حزب الله وسلاحه على مفاصل الدولة، ليس انطلاقًا من أمنها الداخلي فحسب، وليس انتهاءً بجهاز الدفاع عن الدولة ذاتها، مرورًا بالهيمنة على السياسة الخارجية للدولة، ها هي قوى النظام تُمعن في تقويض ما تبقى من "سيادةٍ" عبر تجيير سياستها الخارجية إلى ماكرون.
أزمة الدول الخليجية مع السلطة اللبنانية ليست محصورة بالأزمة المستجدّة الناتجة من كلام قرداحي الذي أدّى إلى تأجيج النار في الهشيم، وبالتأكيد لن تحلّ باستقالته
ومن ناحية ثانية، يمكن وضع كلام قرداحي عن الفائدة المتأتّية عن الاستقالة في موضعٍ أكثر دقة، أو بالأحرى في موقع التشكيك في الفائدة والمعنى الذي يقصده، فبالعودة قليلًا إلى الوراء، يدرك المتابع أن استقالة قرداحي لم تكن المأزق الوحيد، بل إن الحكومة اللبنانية في حالة عدم انعقاد منذ وضع حزب الله معايير العدالة التي يراها هو مناسبةً في حسن سير التحقيق في واقعة انفجار مرفأ بيروت، أي أن الحزب ربط، وبعض حلفائه من خلفه، عودة الحكومة إلى الاجتماع، وبشكل علني، باستبعاد القاضي طارق بيطار عن التحقيق في الجريمة، وهذا ما لم يتم تقديمه له حتى اللحظة. وبالتالي، لن يأتي الكلام عن محاولة حلحلة الأزمة مع دول الخليج بأي ثمار، فالسلطة في لبنان، ممثلة بمجلس الوزراء، معطوبة، ولن تستطيع الاستفادة من أي شيء.
أضف إلى ذلك أن أزمة الدول الخليجية مع السلطة اللبنانية ليست محصورة بالأزمة المستجدّة الناتجة من كلام قرداحي الذي أدّى إلى تأجيج النار في الهشيم، وبالتأكيد لن تحلّ باستقالته. بل إن قرداحي هو نتيجة توازن قوى يضع لبنان في خانة التبعية التامة لايران، وهنا سبب الخلاف أساسًا.
رأس قرداحي، كما رأس رئيس الحكومة السابق، حسّان دياب، قبله، كما رأس أي أحد بعده، سيكون على طبق ربط النزاعات، ويمكن التخلي عنه، حين تدعو الحاجة إلى ذلك
وعليه، فإن تقديم قرداحي استقالته لن يؤدي إلى أي نتيجة، ﻷنها: أولًا، أتت متأخرة كثيرًا، حيث كان من "الأنفع" له، وللبنان من خلفه، تقديمها منذ اليوم الأول، أو عدم تقديمها إطلاقًا. لا أن تأتي بهذا الشكل المتأخر نوعا من رفع العتب، إلى درجة أن تتجاهلها بشكل شبه تام الدول المعنية، ناهيك عن المرور عليها وكأنها أمر "غير مهم للغاية" في نشرات القنوات الاخبارية التي تدور في فلكها. ثانيًا، كانت الاستقالة تتجير لمبادرةٍ لم تصدر عن الجهاز الدبلوماسي للدولة اللبنانية، ولا علاقة للخارجية اللبنانية بها، الوزارة المفترض أن تأخذ على عاتقها معالجة الأزمات السياسية مع الجهات الدولية الأخرى، على غرار أي دولة. بل كانت المبادرة من ماكرون، وهذا لا يضمن، بأي شكل، عدم تكرر أي حادثة تفجيرية جديدة، بما أن شروط إنتاج أي قرداحي مستقبليًا ما زالت نفسها. ثالثًا، وهي نقطة الفصل. لم يقل أحد إن استقالة قرداحي ستكون خطوةً كافية، فالمطلب الأصل لدول الخليج توقف لبنان عن أن يكون منصّة للتهجّم عليها. ووقف لبنان أيضًا عن أن يكون دائرًا في فلك حزبٍ يصادر قراره الخارجي، ويرهنه لمصالح إيران التي تتناقض مع مصالح الخليج. لا بل إن دول الخليج ترى الحزب يهدّد استقرارها وأمنها القومي، ﻷنه لا يصادر قرار الحرب والسلم في لبنان فقط، بل يمدّد نشاطه لداخل حدودها أيضًا، حيث يعمل على تدريب مجموعاتٍ فيها وتسليحها، كما وأنه متهم بالعمل على إغراق أسواقها بشتى أنواع المخدّرات.
أمام كل هذه الضبابية في المشهد، وأمام ازدياد تعقيداته، أتت استقالة القرداحي لتزيد المأزق مأزقًا والوهم وهمًا، فقد أمعنت في إعلان تقويض "السيادة" وتجييرها لجهات خارجية، من ناحية. كما وأنها ظهرت كأنها تضحية بقرداحي نفسه، لكن من دون تحقيق أي إفادة، من ناحية ثانية. وأتت اخيرًا لتعلن أن رأس قرداحي، كما رأس رئيس الحكومة السابق، حسان دياب، قبله، كما رأس أي أحد بعده، سيكون على طبق ربط النزاعات، ويمكن التخلي عنه، حين تدعو الحاجة إلى ذلك.