في إطلالة بهاء الحريري
يروي عبد الحليم خدّام أنّ حافظ الأسد استقبل رفيق الحريري، ليأذن له بأن يتولى رئاسة الحكومة اللبنانية في 1992، واختبره بسؤالٍ عن تصرّفه، لو كان في هذا الموقع، واستجدّ خلافٌ بين سورية والسعودية، فأجاب الرجل بأنّه لبناني ويحبّ وطنه، ولحم أكتافه من السعودية، وهو ليس من ناكري الجميل، غير أنّه قومي عروبي. ويعتبر سورية حاضنة العرب، ولا يستطيع إلّا أن يكون معها. وبالتالي، إذا حصل هذا الخلاف فسيعمل على إزالته، وإذا فشل سيعتزل ويعيش في منزله. اغتبط الأسد بهذا الكلام، وأجابه: "لو قلتَ غير هذا الكلام، لما صدّقتك، وكنتَ ستفقد ثقتي"، ثم صار رفيق الحريري رئيس الحكومة .. وفيما الدنيا دوّارة، نلقى، بعد ثلاثين عاماً من تلك الواقعة، أنّ سعد الحريري يعتزل، بأن يُشهر "تعليقاً" لنشاطه السياسي، في أثناء زيارته بيروت، قادماً من مقامه في أبوظبي، ليس لخلافٍ بين العربية السعودية وسورية لم يستطع حلّه، فلا مطرح في ما بين البلدين منذ أعوام لعروبيةٍ، ولا للحوم أكتاف. والخلافُ حادثٌ بين سعد الدين وأخيه الأكبر، بهاء الدين، الذي كان قرار سعوديٌّ قد أزاحه من وراثة زعامة أبيه في عام 2005، ويُشهر الآن، من موقع إقامته (في عمّان ربما؟) أنّه "سيخوض "معركة استرداد الوطن من محتلّيه" في لغةٍ صقوريةٍ، ليبدو فيها على غير "حمائمية" سعد، "فابن الشهيد رفيق الحريري ما بيترك لبنان". بإيجاز، يعلن أنّه من سيحمل لواء الحريرية، وليتأهل لزعامة السنّة في لبنان، في غضون حديثٍ شائعٍ عن فراغ في هذا الموقع. وبالتأكيد، لا يحتاج تزكيةً من قصر المهاجرين في دمشق، فقد أدبر ذلك الزمان، ولن يعدم رضا محمد بن سلمان في الرياض إذا أحسنت مراكبُه مساراتها.
كأنّ الرئيس ميشال عون استشعر أنّ اختلالاً "ميثاقياً" قد يعبُر لبنان إليه، ولو بمقادير قليلة، بعد إشهار سعد الحريري دمعاته الحسيرة في خواتيم الدقائق التسع لإعلان 24 يناير في بيروت، فسارع إلى زيارة مفتي الجمهورية (ليس مفتي السنّة، بالمناسبة)، الشيخ عبد اللطيف دريان، في دار الفتوى، ليقول، في الزيارة النادرة من نوعها، ما لزم أن يقوله عن دور الطائفة السنّية في الحفاظ على وحدة لبنان وتنوّعه. وعندما نجدنا مضطرين إلى حديثٍ "طوائفي" كهذا (لا تجوز النسبة إلى غير المفرد)، فهذا من شواهد دالّةٍ على فشلٍ ما انفكّ يتجدّد، صارت عليه ما سمّيت "الحريرية السياسية" التي رفعت بيارقَها عابرةً للطوائف، ليست سنّية الطالع، لا ترى السنّة ندّاً للطوائف الأخرى، أقله كما كانوا ينظرون إلى أنفسهم، إبّان نصرة جمال عبد الناصر ثم ياسر عرفات لهم. آثرت تلك الحريرية سمْتَها الليبرالي على الهوية الطائفية، أو هكذا أرادت تصوير نفسها، مع احتفاظها بموقعها عنواناً زعاماتياً للسنة، بفعل خرائط المكان والزمان. وبالطبع، على غير ما كانته زعامات صائب سلام ورشيد كرامي (وغيرهما) في أزمنة التنازع مع مشاريع كميل شمعون ثم بشير الجميل.
المال والبناء والتعمير، مع شراء ولاءاتٍ متنوعة مناطقياً، وصناعة نفوذٍ يتسع هنا وهناك، بالإعلام وبالمشاريع الخيرية والتعليمية (العابرة للحق أحياناً للطائفية)، كانت الثلاثية التي أشاعت صورةً لتيار المستقبل الذي نهض به رفيق الحريري تشكيلاً مدنياً ليس محض سني. لكنّ هذه النيات والأفكار (والطوباويات ربما) لم تفلح في الذي صاغته لنفسها، حتى إذا اغتيل رفيق الحريري، وما تلاه من اتساعٍ مهول في مواقع حزب الله في صناعة القرار، الأمني والسياسي و... أراد من أراد في تيار المستقبل، وفي عناوين سنّية متدينة، بل وأخرى ذات أوشحة "جهادية"، إضافة "مظلوميةٍ سنية" واحدةً من أدوات التعبئة والشحن وشدّ العصب. وهذه، أخيراً، إقالة سعد الحريري نفسَه، لدواعٍ إيرانية، على ما نطق به حالُه لمّا قال ما قاله، تُسعف هذه المظلومية، المتخيلة بداهة، بمدماكٍ جديد، فيحاول عون، الرئيس (والحليف لحزب الله والمعارض اتفاق الطائف بدعوى تقليله حصّة المسيحيين في السلطة والقرار وتعظيم حصة المسلمين) يحاول في زيارته دار الإفتاء، إرسال رسالة طمأنة، رسالة جامعة "ميثاقية".
وعندما يبدأ بهاء الدين الحريري إطلالاته بإشارة إلى "محتلّين" في لبنان، فإنّه لا يهجو طرفاً سياسياً وحسب، وإنّما أيضاً يستخدم معولاً أقوى في هدم المنطق العام، التأسيسي إذا شئنا، للمشروع الحريري الآفل، الذي أراد لنفسه في التسعينيات ملعباً أوسع من ملعب السنّة، لكنّه الانهيار اللبناني الأعمق، والبؤس العربي إياه، يفعل فعله .. ولكن، لننتظر ما في جراب بهاء، بعد بكائية سعد التي لم تصنع تعاطفاً ربما توخّته، وهذا فشلٌ آخر لصاحبها.