في إعادة أردوغان تموضعه داخلياً وخارجياً
تترقّب تركيا حزمة الإصلاحات التي أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) عزمه تطبيقها خلال الفترة المقبلة. وكان أردوغان، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، قد أجرى تعديلات متتالية على النظام السياسي، من خلال إجراء ثلاثة استفتاءات شعبية، بدءاً من استفتاء عام 2007 الذي أتاح انتخاب رئيس الجمهورية بشكل مباشر، خلافاً لما كان معمولاً به في الفترة الماضية، إذ كان الرئيس يُنتخب في البرلمان. كما أجرى في 2010 استفتاءً على حزمة تعديلاتٍ دستورية لإصلاح القضاء، وصولاً إلى استفتاء 2017 الذي حوّل النظام البرلماني إلى رئاسي. وفي الواقع، ساهمت كل هذه الاستفتاءات تدريجياً في تغييرات جوهرية ناعمة، كتكريس خضوع الجيش للإدارة السياسية، والتحول إلى النظام الرئاسي الذي عالج بعض الإشكالات الكبيرة، كبطء اتخاذ القرارات السياسية والخلافات التي كانت تبرز بين رئاستي الجمهورية والحكومة خلال تولّي أحمد داود أوغلو رئاسة آخر حكومة له.
وعلى الرغم من أن النظام الرئاسي أثار إشكاليةً تبنّتها المعارضة بشأن حصر السلطات في شخص رئيس الدولة، إلّا أن الحديث عن الإصلاحات اليوم لن يؤدي، بطبيعة الحال، إلى إعادة تغيير في شكل النظام السياسي الجديد، بقدر تعزيزه وإصلاح إشكالاتٍ ظهرت فيه خلال السنوات الثلاث الماضية، وكانت بمثابة اختبار لفعاليته. حدّد أردوغان ثلاثة اتجاهات سيشملها الإصلاح؛ الاقتصاد والقانون والديمقراطية. وفيما ستسعى الإصلاحات القانونية إلى إصلاح جوانب في القضاء كنظام التقاضي، فإن طبيعة الإصلاحات الديمقراطية غير واضحة المعالم بعد، ويُفترض أن تتضح خلال الإعلان عن حزمة الإصلاحات قريباً. أما الإصلاح الاقتصادي فيبدو أكثر وضوحاً، ويهدف إلى معالجة المشكلات البنيوية التي يواجهها الاقتصاد التركي، فضلاً عن تخفيض نسب التضخّم، وتشريع مزيدٍ من القوانين لجذب الاستثمارات الخارجية. وقد شرع أردوغان بالفعل في تغييرات اقتصادية ومالية من خلال تعيين وزير جديد للمالية ومحافظ جديد للبنك المركزي.
يتحرّك المشهد السياسي التركي بشكل متزايد، وتُثار معه تساؤلات بشأن التغيرات المحتملة في الخريطة الحزبية
ستُشكل الإصلاحات الاقتصادية حجر الزاوية في التغيير الجديد، بالنظر إلى أهمية العامل الاقتصادي في تشكيل الرأي العام الداخلي، وتحديد مدى رضاه عن الحالة السياسية، كما يلعب دوراً بارزاً في رسم الأجندات الانتخابية للأحزاب السياسية، فالنهضة الاقتصادية التي شهدتها تركيا، منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، ساهمت ببقائه في السلطة نحو عقدين. وفي نظرة سريعة على النسب التي حققها الحزب في الاستحقاقات الانتخابية الماضية، بالمقارنة مع الأوضاع الاقتصادية، نجد أنّه في انتخابات 2011 حصل على 48.8% في فترة شهدت انتعاشاً اقتصادياً. ولكنّ هذه النسبة تراجعت بعد ذلك، ووصلت إلى 42.6% في انتخابات 2018 البرلمانية، بسبب التراجع الاقتصادي وعوامل داخلية أخرى. وبالنّظر إلى أن الضغوط الاقتصادية الراهنة آخذة في التصاعد، بفعل أزمة كورونا والضغوط الخارجية، فإن نجاح الإصلاحات الاقتصادية يكتسب أهمية كبيرة للحزب قبيل انتخابات 2023.
ومع اقتراب هذه الانتخابات، يتحرّك المشهد السياسي التركي بشكل متزايد، وتُثار معه تساؤلات بشأن التغيرات المحتملة في الخريطة الحزبية، بالنظر إلى الأحزاب الجديدة التي تتشكل، فالعام الماضي وحده شهد تشكيل 27 حزباً جديداً. منذ دخول حزب العدالة والتنمية في تحالف مع الحركة القومية، استندت السياسة الانتخابية إلى المنافسة بين تحالف الحزبين، المُسمى تحالف الشعب، وتحالف الأمة المكون من حزب الشعب الجمهوري، والحزب الجيد وحزب الشعوب الديمقراطي، وحزب السعادة. وبعض الأحزاب الجديدة شكّلتها شخصيات منشقة عن "العدالة والتنمية" كأحمد داود أوغلو وعلي باباجان. وهناك حزب يُنتظر أن يُشكله محرم إينجه الذي كان من قيادات حزب الشعب الجمهوري، فضلاً عن حزبٍ كردي يتوقع أن يُشكل قريباً منافساً كردياً لحزب الشعوب الديمقراطي. كذلك يتوقع أن يظهر حزب من داخل حزب الخير. ومن غير الواضح ما إذا كانت الأحزاب الجديدة ستنخرط في التحالفين الرئيسيين، أم ستُشكل تحالفاً ثالثاً، أم ستعمل بشكل مستقل.
منذ عام 2007، أجرت تركيا عشرة استحقاقات انتخابية، وهذا الرقم القياسي يُظهر وتيرة غير مستقرّة تسير بها التحولات التاريخية في البلاد
سارعت أحزاب معارضة أخيراً إلى الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة، لاعتقادها أن هذه الانتخابات ستصبّ في صالحها، بالنظر إلى حالة انشقاق شخصيات بارزة عن الحزب الحاكم، فضلاً عن الصعوبات الاقتصادية التي تواجه البلاد. ولكن رفض أردوغان هذا المطلب كان متوقعاً، على اعتبار أن الوضع الحالي لا يستدعي مثل هذه الانتخابات، كما أن جرّ تركيا إليها ينطوي على مخاطر كبيرة، في ظل مشهد داخلي مفتوح على كل الاحتمالات وضغوط خارجية آخذة في التصاعد. منذ عام 2007، أجرت تركيا عشرة استحقاقات انتخابية، أي بمعدل انتخابات كل سنة وثلاثة أشهر. وهذا الرقم القياسي يُظهر وتيرة غير مستقرّة تسير بها التحولات التاريخية في البلاد منذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى السلطة. وبغض النظر عن تأثير الحالة الحزبية على المشهد الانتخابي المقبل، فإن حاجة أردوغان إلى جذب أحزابٍ جديدة لتحالفه مع القوميين، ستفرض عليه تعديلاً في الخطاب الداخلي بما يتلاءم مع متطلبات المرحلة الجديدة.
وبالتوازي مع الانعطافة الداخلية، يشهد الخطاب الخارجي تحوّلاً كتبني خطابٍ تصالحيٍّ مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول المنطقة. في العام الماضي، وصلت الاندفاعة الخارجية إلى ذروتها من خلال أعمال التنقيب في مناطق متنازع عليها مع اليونان في شرق المتوسط، والتدخل العسكري إلى جانب حكومة الوفاق في ليبيا، فضلاً عن الدعم العسكري لأذربيجان في صراعها مع أرمينيا، بالإضافة إلى اتجاه تركيا لتعزيز شراكتها العسكرية مع روسيا بشراء منظومة إس 400 الدفاعية على الرغم من التهديدات الأميركية. وعلى الرغم من أن هذه الاندفاعة حققت مكاسب كبيرة في الحالتين، الليبية والأذربيجانية، إلّا أنّها في المقابل ساهمت في تفاقم التوتر مع الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الرئيسي لتركيا. كما عمّقت الخلاف مع واشنطن. ولطالما كانت تأثيرات الأوضاع الجيوسياسية العالمية حادّة على الحالة التركية أكثر من أي بلد مجاور، بفعل أهميتها الجيوسياسية والجيواقتصادية. لذا، لا يمكن أن ينجح المسار الداخلي الجديد الذي يعمل عليه أردوغان من دون تقدّم في المسار الخارجي وإصلاح العلاقات مع الغرب، إذا ما أخذنا بالاعتبار التأثيرات على الاقتصاد.
على أنقرة الموازنة بين تحسين العلاقات مع الغرب من دون تقديم تنازلات جوهرية تضرّ بمصالحها
يتطلّب الوضع الدولي الجديد مرونة سياسية وتحرّكات مكثفة لإعادة تصويب العلاقات مع الغربيين، وفتح ثغرة في الجدار مع الدول الوازنة في المنطقة. وتشير الانعطافة التركية الخارجية إلى رغبة أنقرة في إعطاء الأولوية مجدّداً للدبلوماسية من دون التخلّي عن مواصلة استخدام قواتها الذكية على الأرض إذا تطلب الأمر ذلك. وبالنظر إلى تداخل المسارات الداخلية والخارجية بعضها مع بعض، فإن عقبات رئيسية قد تبرز أمام نجاح استراتيجية إعادة التموضع. ففي قضية الإصلاح الداخلي، على أردوغان الموازنة بين خطوات الإصلاح والحفاظ على زخم عملية استئصال تنظيم فتح الله غولن من مؤسسات الدولة. وكذلك الموازنة بين نهجه في التعامل مع الحالة الكردية وفسح المجال أمام حزب الشعوب الديمقراطي للعودة بفعالية إلى المشهد السياسي، لتهيئة الظروف أمام إمكانية إعادة استئناف عملية السلام الداخلي. وفي العلاقات مع الغرب، يتعيّن على أنقرة الموازنة بين تحسين هذه العلاقة من دون تقديم تنازلات جوهرية تضر بمصالحها، سواء في شرق المتوسط وقبرص وليبيا، أو في مسألة التعاون العسكري والسياسي مع روسيا.