في التقاضي ضد الاحتلال الإسرائيلي وداعميه
"هذه أصعب قضية نظرتها على مدى 27 عاماً من حيث الوقائع والقانون. الشهادات التي سمعتها مروّعة، ولا توجد كلمات لوصفها. أقول للشهود الذين مثلوا أمام المحكمة اليوم إن هذه المحكمة كإحدى سلطات الدولة قد رأتكم وسمعتكم، وسوف أدرس شهاداتكم بعناية وأقوم بواجبي الدستوري. هذا أصعب قرار قضائي سأتّخذه في حياتي، وسأتعامل معه بكامل الجدّية"... بهذه العبارات اختتم القاضي الأميركي جيفري وايت أولى جلسات القضية التي رفعها أمام المحكمة الجزائية الأميركية للمنطقة الشمالية في ولاية كاليفورنيا في 29 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) تحالف من المنظمات الحقوقية الأميركية والفلسطينية والعربية، وثمانية من الفلسطينيين من سكّان غزّة، بينهم مواطنون أميركيون، ضد الرئيس جو بايدن، ووزيري الخارجية أنتوني بلينكن والدفاع لويد أوستن. قُدّمت في الجلسة شهاداتٌ حية مؤلمة لفلسطينيين عايشوا أهوال العدوان الإسرائيلي، وتعرّضوا لإصابات أو فقدوا عشرات الأفراد من أسرهم. تستند هذه الدعوى المدنية لقانون تنفيذ اتفاقية الإبادة الجماعية الذي أقرّه الكونغرس الأميركي عام 1988. وتسعى الأطراف المحرّكة للدعوى إلى إصدار إعلان من المحكمة يحمّل القادة الأميركيين مسؤولية مساعدة ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وتسهيله في قطاع غزّة، والفشل في اتخاذ تدابير منع وقوع الجريمة بموجب المسؤولية التقصيرية. وتهدف الدعوى أيضاً إلى إصدار أوامر قضائية تُلزم الإدارة الأميركية باتخاذ كل الإجراءات لوقف الجرائم في غزّة، في مقدّمتها وقف الدعم الديبلوماسي والعسكري للاحتلال الإسرائيلي.
عقدت الجلسة الأولى لهذه القضية المهمة وغير المسبوقة يوم الجمعة الماضي، في اليوم نفسه الذي أصدرت فيه محكمة العدل الدولية قراراتها العاجلة المؤقتة لمنع خطر ارتكاب الإبادة الجماعية ضد سكان غزّة في قضية جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. وتأتي هذه القضية في ولاية كاليفورنيا في وقتٍ قدّمت إدارة بايدن قراءة متحايلة لقرار محكمة العدل الدولية، باعتباره يدعم حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، وفي إطار احترام القانون الدولي الإنساني. وفي الوقت ذاته، أعلنت عدة دول غربية، من بينها الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا وفنلندا وإيطاليا، تعليق تقديم مساعدات مالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بعد مزاعم إسرائيلية بمشاركة عدة فلسطينيين عاملين فيها في عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر. وبحسب خبراء دوليين، من بينهم المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، محمد البرادعي، فإن هذه القرار، وبصرف النظر عن دوافعه، يعد بمثابة انتهاك فجّ وصريح لقرارات محكمة العدل الدولية، ويعد بمثابة فرض عقاب جماعي بحق حوالي ستة ملايين ونصف مليون فلسطيني مسجّلين لدى "أونروا"، ويزيد من معاناة سكان غزّة، خصوصاً في ظل التحذير الذي تضمّنه قرار "العدل الدولية" بشأن تدهور الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة.
مستقبل النظام الدولي بمؤسّساته وقوانينه بات مرهوناً بتداعيات ما يجري في الأراضي الفلسطينية
لا يلزم قرار محكمة العدل الدولية أطراف القضية فقط، بل تمتدّ آثاره إلى جميع الدول المصادقة على اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها. ويعد منع جريمة الإبادة الجماعية من القواعد الدولية الآمرة، وهي القواعد التي لا يجوز الإخلال بها تحت أي ظرف، وعلى جميع أعضاء المجتمع الدولي مسؤولية عدم التواطؤ أو التحريض على ارتكاب هذه الجريمة، في ظل إقرار محكمة لاهاي بأن سكان قطاع غزّة يعيشون تحت خطر حقيقي وجسيم لارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.
ستمهّد قضية لاهاي، والقرارات العاجلة الصادرة عن "العدل الدولية"، لانطلاق موجة واسعة من التقاضي أمام المحاكم الأجنبية المحلية لمناصرة القضية الفلسطينية في عواصم عديدة، خصوصاً في الدول الغربية التي قدّمت وما زالت تقدّم دعماً وتسليحاً للاحتلال الإسرائيلي، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وكندا. سيضع قرار "العدل الدولية" الحكومات الغربية التي تقدّم صادرات أسلحة للاحتلال الإسرائيلي في حرج سياسي وقانوني بالغ، خصوصاً أن قوانين داخلية كثيرة، كما الحال في كندا على سبيل المثال، تحظر تصدير الأسلحة في حال ثبت أن هذه الصادرات تسهّل من ارتكاب جرائم دولية جسيمة. وعلى حد قول الأكاديمي والقانوني الفلسطيني، نمر سلطاني، في تغريدة عقب صدور القرار في لاهاي "من المهم التركيز على الجوانب الإيجابية الكثيرة في قرار العدل الدولية، واستعماله رافعة للدفاع عن الشعب الفلسطيني ووقف الحرب بدلاً من التقليل من شأنه كما تقوم الدعاية الإسرائيلية بتصويره نصراً لإسرائيل زوراً وبهتاناً". يجب ألا يضيع النزيف الإنساني لأهالي غزّة هباءً من دون الضغط بشتى الوسائل القانونية والشعبية لإحداث نقلة نوعية على المستوى الدولي تتمثل في تكثيف التضامن الشعبي العالمي مع عدالة القضية الفلسطينية، وتوسيع فرص العزل الأخلاقي والسياسي والقانوني للاحتلال الإسرائيلي وداعميه. ولا يعدّ من قبيل المبالغة القول إن مستقبل النظام الدولي بمؤسّساته وقوانينه بات مرهوناً بتداعيات ما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلّة. فإما أن يتمكّن هذا النظام بآلياته الحالية من تصحيح ما أصابه من عطن سياسي وأخلاقي، أو أن تشتدّ موجات العدمية والكراهية والاستقطاب إلى مستوياتٍ تقضي معها على أي أمل في وجود الحد الأدنى من القيم الإنسانية العالمية المشتركة.