في الحاجة إلى حلّ فيزيقي
الحلول الميتافيزيقية على عيني ورأسي. كلما اعتقل أحدنا أو اختفى أو ضربوه بالرصاص ومات أمام أعيننا، وأمام الكاميرات، وأمام الدنيا كلها، يكون التعليق هو "حسبنا الله ونعم الوكيل"، صراخ وعويل على مواقع التواصل الاجتماعي، حلقات نارية على قنوات الإسلاميين، أو على "يوتيوب"، بوستات وتويتات وآيات وأحاديث وأشعار تتوعّد الظالمين، ثم؟ لا شيء، يفلت القاتل بجريمته، ويكمل مسيرته "الوطنية" في التخلص من أعداء الوطن، (هكذا يؤمن، وهكذا يعتقد، وهكذا يفتي له شيوخه في الدين، ومستشاروه في السياسة)، ويظل المقتول، أو المسجون، أو المشرّد في بلاد الله، كما هو، ويُنسى، ويأتي غيره، من دون أي تغيير أو تحريك للأمور في أي اتجاه غير اتجاه السلطة، وما تريده، وما تتبناه، وما تنفذه، من دون توقف.
"حسبنا الله"، عزاء واجب، ونزوع فطري إلى الله، وبُشرى، تحمل اليقين، بأن ذلك كله لن يمرّ من دون عقوبة، أخروية، "ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخّرهم .. الآية". أتفهّم ذلك وأقدّره، وأشارك فيه، أحيانا، لكنني، وغيري، نتطلّع إلى "حل"، يقلل ذلك كله، أو ينهيه، ثورة؟ فقدنا الناس، ولا يعني عدم اقتناعهم بأداء السلطة الحالية أنهم مستعدّون لخوض مغامرةٍ أخرى مع بديل، لم ينصفهم البديل، حين وقفوا بالملايين في الميادين، ثم أمام لجان الانتخابات، وتحمّلوا جرّاء ذلك عامين من الفوضى وغياب الاستقرار، الذي هو كل شيء، تقريبا، بالنسبة للمصريين. تفاوض؟ على ماذا؟ ولماذا تجلس السلطة مع أي ممثلٍ من ممثلي يناير أصلا؟ ما الذي يملكه أي طرفٍ معارض ليقدّمه؟ حركة الشارع؟ انتهت. إعلام الخارج؟ اختفى قسريا، الأصدقاء الإقليميين؟ صاروا أصدقاء السيسي، الضغط الدولي؟ أثبت النظام قدرته على المناورة وتقديم "اللازم"، الملف الاقتصادي؟ نعرف قدرة المصريين على التأقلم، مع هذا النظام وغيره، ونعرف أن سوء الأحوال الاقتصادية قد يتسبّب في طن مشكلات، ولكن ليس من بينها رحيل النظام. الاستثناء الوحيد هو رغبة جناح قوي، داخل النظام نفسه، في التخلص من رأس السلطة الحالية وتمرير الإجراء الانقلابي من بوابات الغضب الشعبي، أو الثورة المتخيّلة، ما يعني تغيير الوجوه لا السياسات، واستمرار النظام، كما هو، بانحيازاته ومشكلاته، كما هي، وهو احتمال بعيد، وغير مجدٍ.
هل ثمّة حل؟ الأوراق، كلها، في يد السلطة، والمعارضة لم تعد رقما، مجرّد متفرّجين، وظواهر صوتية، أتحدّث هنا عن الساسة، وليس عن أصحاب الأدوار التوعوية، والمقاومة بالتنقيط على صخرة الواقع، لعله يتفتّت يوما ما، فإذا أرادت السلطة أن تفتح بابا للتفاهم حول وجود معارضة، وفق شروط السلطة، وإكراهاتها، وتحقيق مكاسب محدودة، أيضا وفق شروطها، فهي فرصة غير قابلة للإهدار، كما أنها غير قابلةٍ للمزايدات، وإملاء الشروط "الكوميدية"، سواء على السلطة، صاحبة العرض المجاني، إلى الآن، أو ممثلي المعارضة، على مائدة ما يسمّى "الحوار الوطني"، وسواء كان الحوار حقيقيا، وهو المأمول، وغير المتوقع، أو كان غير ذلك، فإن فرصة تحسين شروط المنتصر على المهزوم تستحقّ الرهان، وليس لدينا ما نخسره، على الأقل هنا والآن.
ولا يعني استمرار الإجراءات القمعية والأحكام التعسفية إمكانية التراجع، فالتراجع اختيار، وأوضاع المعارضة المصرية "المسؤولة" لا تسمح لهم بالاختيار، خصوصا معارضة الداخل، التي لا تتمتع بما يتمتع به معارض الخارج "المستريح" من قدرةٍ على إصدار الأحكام المجّانية، وتبنّي خطابات زاعقة وغير مسؤولة، لن يدفع ثمنها بنفسه. تتعامل السلطة المصرية مع ممثلي "يناير"، منذ رحيل مبارك، باعتبارهم خصوما في معركة صراع على السلطة، وليسوا شركاء أو مواطنين أو معارضين لهم حقوق، وتتعامل مع قطاع منهم بوصفهم خونة وعملاء للخارج، ما يعني مشروعية استباحتهم، (هكذا تحرّك الدولة أدواتها)، ولن يتغيّر ما يترتب على هذا التصوّر المغلوط، إلا إذا تغيّر التصوّر نفسه، أو تغيّر أصحابه، وما دمنا غير قادرين على تغيير السلطة، فليس أقل من محاولة تغيير قناعتها، ولو كلفنا ذلك متعة تسجيل الموقف.