في المشهد الليبي.. لا جديد يُذكر والقديم يُعاد
تتوالى اجتماعات الأطراف السياسية الليبية في مدن عدة في العالم، شرقها وغربها، من دون أن تحقق أي اتفاق، بل ومن دون أن يكون لديها النية في ذلك، حيث إن وضعا كهذا يعدّ مثاليا لهم، فخلافهم واختلافهم هو الضامن لبقائهم، وأي انفراج أو بحث عن قواسم مشتركة أو تنازل قد يؤدّي إلى خسارتهم هذا الوضع، وبالتالي خسارة ما يتمتّعون به.
بعد أيام عدة استغرقها لقاء وفدي مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، اللقاء الذي أمرت به ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، ستيفاني وليامز، في القاهرة، والذي استمر أكثر من جولةٍ خُصصت لمناقشة سبل الوصول إلى اتفاقٍ بشأن مسودة الدستور، ومحاولة الوصول الى صيغة مشتركة حول النقاط الخلافية، انتهى هذا اللقاء من دون أن يكون حظه أفضل من المشاورات السابقة، وهذا متوقع، فلا يمكن أن تحصل على مخرجاتٍ مختلفةٍ من المدخلات نفسها تحت الظروف نفسها. حاولت ستيفاني وليامز إيجاد عباراتٍ ألطف من الفشل في وصف هذه المشاورات، حرصا على سيرتها الذاتية، حيث أشارت، في ختام أعمال اللجنة المشتركة، إلى تفاؤلها. وقالت إنها سُرّت بالفعل بأن اللجنة المشتركة وصلت إلى توافق مبدئي حول 173 مادة، وأضافت: "أسعدني بشكل خاص أنكم تمكّنتم من الاتفاق على الباب الثاني المعني بالحقوق والحريات"، وهي تدرك تماما، كما أن الليبيين يدركون، أن اختلاف مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة لم يكن حول 173 مادة أشارت إليها، ولم يكن اختلافهم بشأن الباب المتعلق بالحقوق والحرّيات، فتلك المواد محل اتفاق في ما بينهم قبل اجتماعهم في القاهرة، وإنما نقاط خلافهم بشأن الشروط التي يجب توفرها في من يريد الترشّح للرئاسة، وكذلك صلاحيات الرئيس وحمله جنسية أخرى. نقاط لا تزال محلّ اختلاف وسط تمسك كل طرفٍ باقتراحاته التي تعكس اختلاف الأطراف، خصوصا بشأن ترشّح خليفة حفتر في الانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي لا تزال بعيدة المنال، وهي نقاطٌ ما زالت عصيةً على التفاهم، كونها تتعدّى الاختلاف الداخلي إلى ذلك الإقليمي والدولي الذي يحرّض ويدعم وكلاءه في الداخل، بما يضمن تحقيق مصالحه.
الجميع يعلم أن أميركا تملك مفاتيح الأزمة الليبية، وحتى وإن لم تتدخّل، علانية وبشكل مباشر، إلا أنها دائما تسعى إلى إعادة ضبط أدوار الدول والقوى المهتمة بالشأن الليبي
الجديد هذه المرّة أن معظم الليبيين لم يكترثوا بما يدور في القاهرة، ولم يهتم كثيرون منهم بفشل هذا الحوار، فالجميع يعرف نتيجته، لمعرفته بأسماء المشاركين فيه وصفاتهم. أما ستيفاني وليامز، فيبدو أنها لا تزال مصمّمة على إضافة جديد في سيرتها الذاتية، فدعت من جديد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري إلى جنيف لمناقشة مسودة الإطار الدستوري بشأن الانتخابات. لم تنتظر ستيفاني ردّهما كثيرا، فهي وهما والليبيون يعرفون أن طلباتها لا تُردّ، وأن أوامرها لا تُعصى. وبالفعل، وفي غضون أيام قليلة، زفّت البشرى التي لا ينتظرها أحد، قائلة إنه يسرّها تأكيد قبول كل من صالح والمشري دعوتها إلى الاجتماع في جنيف.
لم يكن هذا الاجتماع الأول، ولن يكون الأخير، فقد اجتمع الاثنان أكثر من عشر مرات منذ بداية الأزمة، وعقدت اجتماعات عدة حالت حسابات التنافس بين القوى الإقليمية والدولية دون نجاحها، حسابات جاءت متناغمة مع رغبة الطرفين في البقاء وعدم مغادرة المشهد. بقاء يؤكّده وجود مسوّدة الدستور التي تناقش، منذ العام 2017، أمام مجلسي النواب والرئاسة الأعلى، للموافقة على عرضه للاستفتاء. ويبدو أن سرعة استجابة كل من عقيلة والمشري للقاء لا تعود إلى صاحبة الدعوى وجنسيتها فقط، والتي تأمر فتُطاع، بل إلى أن زيارة جنيف والتمتع بهواء البحيرة العليل إغراء لا يمكن مقاومته، خصوصا في هذه الظروف التي تتجاوز فيها درجة الحرارة المئوية حاجز 45 درجة، مع انقطاع شبه تام للكهرباء في كل من بنغازي وطرابلس، فلا يمكن لأي مسؤول (عاقل) أن يرفض هده الدعوة. أما الاتفاق أو عدمه فتلك مسألة فيها قولان، فإما أن لا يكون هناك اتفاق، كالعادة، أو اتفاق على عموم المواضيع وترك بعض التفاصيل، لتكون محل خلاف من جديد، وذلك متوقّع أيضا. وإلى حد كتابة هده الكلمات، ليست هناك أخبار مؤكدة عن نتيجة هدا الاجتماع الذي أطلقت عليه ستيفاني "الاجتماع التاريخي".
بات اليأس السمة الأبرز في حياة الليبيين، ولم يعد هناك مجال للحديث عن إمكانية حدوث انفراجة قريبة
واللافت للنظر هنا أنه، وبالرغم من أنه لا جديد يُذكر بخصوص هده الاجتماعات، إلا أن تصريحات السفير الأميركي، والتي وصفت بأنها الأكثر إثارة للجدل، والتي تزامنت مع هذه المحادثات، أكثر أهمية مما يجري في جنيف، خصوصا والجميع يدرك أن أميركا، بصفة خاصة، تملك مفاتيح الأزمة الليبية، وأنها حتى وإن لم تتدخّل، علانية وبشكل مباشر، إلا أنها دائما تسعى إلى إعادة ضبط أدوار الدول والقوى المهتمة بالشأن الليبي، وتطويعها وتوجيهها بما يخدم مصالحها. تصريحات السفير، ومفادها أنه يمكن إجراء انتخابات عامة في ليبيا من دون شرط حلّ الأزمة بين الحكومتين المتنافستين، رسمت أكثر من إشارة استفهام بشأن التغيرات الذي طرأت على السياسة الأميركية، والتي طالما نادت بحكومة واحدة تشرف على الانتخابات التي ينتظرها الليبيون، وعرقلها السياسيون، ناهيك عن صعوبة، إن لم تكن استحالة، الإشراف على الانتخابات من حكومتين تتنازعان الشرعية، واستحالة النزاهة أيضا، حيث ستعمل كل حكومة على إنجاح الطرف المتضامن معها، ومهما تكن النتيجة، سيرفض الخاسر القبول بنتائج الانتخابات، وتستمر هذه الدوّامة كما خطط لها.
وقد جاء تصريح السفير الأميركي بعد أيام من البيان المشترك الذي أصدرته كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، وجاء غامضا وفضفاضا، الأمر الذي جعل الطرفين يرحبان به، واعتبرته كل حكومة بيانا داعما لها، الأمر الذي يؤيد رؤية بعضهم عن دور الأمم المتحدة والدول الكبرى، والذي لا يهدف إلى حل المشكل بشكل جذري أكثر من تسكينه، وإطالة أمده إلى الدرجة التي تضمن استمرار استفادة هذه الدول من الوضع القائم.
على كل حال، الأخبار مكرّرة كالعادة. لا جديد فيها ليُذكر، ولم يعد المواطن متابعا أو مهتما بها، فقد بات اليأس السمة الأبرز في حياة الليبيين، ولم يعد هناك مجال للحديث عن إمكانية حدوث انفراجة قريبة، فما بين عقيلة صالح وخالد المشري، ورئيسي "الحكومتين"، عبد الحميد الدبيبة وفتحي باشاغا، أوهام حلول لا يمكن أن تُصرف على أرض الواقع، كما أن محاولات التوافق والاجتماعات والمشاورات تثير أسئلة عديدة أكثر مما تقدم من أجوبة، ويقف الليبي حيالها عاجزا عن التمييز بين الحق وذلك الذي يخبئ في ثناياه الباطل.