في تذكّر جميل راتب... طاغية نبيهاليا
مرّت الذكرى الثالثة لوفاة الفنان المصري الجميل، جميل راتب، قبل نحو أسبوع، ذلك الفنان النموذج، والذي لم يتنبه أحدٌ إلى فرادته وقيمته الفنية والإنسانية العالية، إلا بعد رحيله.
كلّ ما قدّمه جميل راتب من أعمال في السينما المصرية، والعربية، والتلفزيون، علامات مهمة في تاريخ الفن العربي، بحضوره المدهش وأدائه العبقري، وقبلهما اعتزازه بكونه فنانًا، وإيمانه العميق بدور الفن في حياة الشعوب.
إنسانيًا، كان جميل راتب سليل الأرستقراطية المصرية المتمرّد عليها، إذ لم يجد ذاتَه في أفكارها وقيمها، فقرّر الانحياز للبساطة وللإنسان العادي، الفقير، المناضل، المكافح، على الرغم من أنّ وسامته جعلت كثيرين يظنّون أنّه من والديْن أجنبيين، أو أحدهما، بينما الواقع أنه مصري مائة بالمائة، ومن أسرة ضاربة بجذورها في عمق المجتمع المصري، إذ كان والده وأعمامُه من المشاركين في الثورة ضد الاحتلال البريطاني في العام 1919، وعمّته هي هدى شعراوي، المناضلة من أجل حقوق المرأة في بواكير القرن الماضي.
وعلى مؤشّر الوطنية، كما كتبتُ عنه بعد رحيله، كانت مجمل أعمال جميل راتب الفنية انحيازًا نقيًا ومخلصًا للقضايا الوطنية، التي هي قضايا الإنسان المصري، فناضل، بالفن، مع الحرية ضد الاستبداد، ومع الديمقراطية ضد الدكتاتورية، ومع حقّ المواطن في التعليم والصحّة ضدّ الفساد والقبح والجهالة... وهو الموقف الذي طبّقه الفنان الراحل عمليًا بالوجود بين الجماهير في الثورة الشعبية، الأبهى والأنقى في تاريخ المصريين، حين خرجوا، في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، يطلبون الحرية والكرامة الإنسانية والعدل.
من بين أكثر من 80 فيلمًا قدّمها جميل راتب للسينما المصرية بعد عودته من فرنسا في العام 1974، حيث كان يدرُس ويشتغل بالفن هناك، تأتي بطولته لفيلم المخرج الكبير صلاح أبو سيف "البداية"، أهم المحطات الفنية في مسيرته، كون هذا العمل هو الأقوى والأكثر اقترابًا ومباشرًة من الغوص في أعماق الطغيان والاستبداد: كيف ينشأ؟ وكيف؟ ولماذا يترسّخ ويستمر؟ وكيف يموت؟، وذلك من خلال سيناريو أقرب إلى الفانتازيا، لكنه يعبّر أفضل تعبير عن واقع مصري وعربي مُقبض.
يرصد الفيلم وقائع نشوء المجتمع الإنساني وتطوّره، ونموّه السياسي والاقتصادي، من خلال حكاية طائرة تهبط اضطراريًا في واحةٍ مجهولة، ليس فيها سوى نخيل يطرح بلحًا وعين ماء، فيما تتنوّع مستويات ركّاب الطائرة لتشمل كلّ فئات المجتمع وطوائفه وطبقاته، حيث المثقف والأمي والفنان والفلاح والمعلّم ورجل الاقتصاد، على رأس هؤلاء "نبيه بك" الذي يجسّد شخصيته جميل راتب، لتبدأ الأحداث بحاجة هذا المجتمع الذي وُجِد اضطرارياً في هذا المكان المنعزل عن العالم لإدارة حياتها وتنظيم شؤونه، من خلال سلطةٍ تحكمه وتسيّر أموره.
هنا يلجأ "نبيه بك" إلى فكرة الانتخابات طريقًا للاستحواذ على السلطة والخلود فيها، إذ ينفرد ببسطاء الواحة وأميّيها المعدمين، ويبدأ في حشو رؤوسهم بما يجعلهم يتشكّكون في بعضهم بعضًا، ثم يطرح نفسه الحلّ للسيطرة على هذه التناقضات التي تهدّد وجود الواحة وتهدم أركانها وتزعزع استقرارها.
وبعد أن تنجح خطّته في السيطرة على الجماهير بكلامه المعسول عن الفضيلة وادّعائه العلم والخبرة والقوة، في إزاحة منافسيه وخصومه من طريقه، ليصبح ملكًا على الواحة، التي يسمّيها باسمه "مملكة نبيهاليا" يبدأ في إصدار القرارات والأوامر والفرمانات، باعتباره ملك الواحة ومالكها.
مع مرور الوقت تتبخّر وعود الملك الدجّال بالرخاء والأمن والاستقرار، ويبدأ المخدوعون في استعادة الوعي المسروق. وهنا يظهر الطاغية المستبدّ على حقيقته، حيث يرى في كلّ من يتحدّث عن العدالة وتداول السلطة واحترام حقوق إنسان الواحة في العيش بكرامة ومساواة، يعتبرهم جميعًا أعداء.
تتفاقم حالة البارانويا المسيطرة على الطاغية، فيتّهم شعب الواحة المكتشفة بالتآمر على المملكة، وبأنّه لا يعمل ولا يكافح كما يجب، ويصل به الجنون إلى أن يطلب من شعبه أن يرقد مثل الدجاج على البيض حتى يفقس لزيادة موارد المملكة.
كان "الزعيم نبيه" يحكم ويتصرّف، وهو على ثقةٍ تامة بأنّ الشعب كله رهائن عنده، في مملكته التي لا يصل، أو يعرف، أو يهتم بما يدور فيها أحد، حتى حلّقت طائرةٌ في سمائها، واكتشفت وجود الرهائن المخطوفين الذين انطلقوا نحوها يهتفون ويصرخون حتى انتبه إليهم قائدها، وحطّت الطائرة لتنقذهم، فيما بقي الطاغية وحيدًا تُحاصره ألسنة نخيل الواحدة الذي أضرم فيه النار.
وتنتهي أحداث الفيلم بإقلاع الطائرة، وعلى متنها الناجون من الطغيان. وهكذا، دائما وأبدًا، لابدّ أن تأتي طائرةٌ في وقتٍ ما لتهبط في مكانٍ ما وتُنقذ شعبًا ما.
رحم الله جميل راتب وصلاح أبو سيف.