في تفكيك مقولة "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"
عابراً، أشار مقال سابق للكاتب في "العربي الجديد" عن ورطة الفقهاء والتغلب إلى مقولات شاعت وذاعت على ألسنة الناس، جرّاء انتشارها في كتاباتٍ عن الفكر السياسي الإسلامي، تراثية قديمة ومعاصرة حديثة. وإذا كان مقال يوم 21/1/2022 شرع بتفكيك مقولة "المستبد العادل" فإن هذه المقولة أيضا لا تقل خطرًا عن سابقتها في آثارها ومآلاتها، وفي اتخاذها سندًا من كثيرين استخدموها في تسويغ الاستبداد وظلم المستبدين. ومن هنا، يجب أن تكون عملية التفكيك تلك مطلبًا مهمًا في مسألة تفكيك الاستبداد ذاته ومواجهته. وللأسف الشديد، شيوع بعض هذه المقولات أكسبها سلطة في النفوس والعقول، وتدثّرت بقداسة الشيوع والذيوع.
ولعل تلك الأزمات يُحدثها وضع تلك المقولات في النشأة والذاكرة، وعمليات ترويجها في النقل والحمل لها فتقوم بتشييعها، وكذلك أزمة الاستعمال والاستخدام والتداول التي تقوم، للأسف الشديد، بتوظيفها واستغلالها بشكل أو بآخر، خصوصا أن بعضهم قد يضفي على تلك المقولة بعضا من مظاهر التبجيل والتقدير لوجودها في كتبٍ معينةٍ أو كتابات فقهاء معتبرين، ويسخر من هؤلاء الذين قد يقفون في مواجهة تلك المقولات التي تسبّب خللًا في بنيات التفكير والتدبير وعمليات التدافع والتغيير، فيؤدّي ذلك إلى استغلال تلك المقولات في تبرير شرعية تلك الأنظمة المستبدّة، ويقوم بعض من هؤلاء الذين يشكلون أبواقًا للنظام الاستبدادي فيحملون تلك المقولة والمقالة، ويؤكّدون على قيمتها، ويُزهدون الناس في نقدها بل نقضها.
تحمل مقولة "سلطان غشوم .. " تصوّرا للسلطة، وربما تجنح إلى الحديث عن ضرورة السلطة باعتبارها أمرًا واجبًا
وفي حقيقة الأمر، تجعلنا تلك المقولة التي تتكون من كلمات قليلة، حتى صارت مسرى الأمثال "سلطان غشوم خير من فتنة تدوم"، نناقش هذا التركيب من بعد نقد عملية التوثيق والتحقيق لتلك المقولة في ذاتها وورودها وسياقات وضعها؛ حيث تتجلى خطورتها في مناقضتها أصل وصف السلطان الغشوم، كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم بسنده الصحيح الحسن "صنفانِ من أُمَّتِي لن تنالَهُما شفاعتي، إمامٌ ظلومٌ غشومٌ، وكلُّ غالٍ مارقٍ". أما مقولة عمرو بن العاص، والتي يُستند إليها في هذا المعنى في مخاطبته ابنه التي أوردها ابن عساكر في كتابه "تاريخ دمشق" "يا بني .. سلطان عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم" تؤكد أن الأصل في السلطة العدل، وأن وقوف بعضهم على ذيل هذا الكلام مقطوعًا عن سابقه، ليس إلا انتقاءً مخلًا بمبنى (ومعنى) المغزى الذي يقصده عمرو بن العاص، رضي الله عنه، ورُويت المقولة ذاتها في مواضع أخرى، وقمنا بالتدقيق والتحقيق والتوثيق لها، الذي ذكرنا طرفًا منه.
وها هو الجاحظ في واحدة من رسائله التي حققها عبد السلام هارون رحمه الله يستخدم كلمة "السلطان الغشوم"، وتقبيح التزاماتها في ميزان منظومة الأخلاق، فيؤكّد "والحازم لا يلتمس شفاء غيظه باجتلاب ضعفه، ولا يطفئ نار غضبه تأخر عقوبة من أغضبه، ولا يسدّد سهمه إلا والغرض ممكن، والغاية قريبة، ولا يهرُب إلا والمهرب معجزة، إن سلطان الغيظ غشوم، وإن حكم الغضب جائر، وأضعف ما يكون العزم عن التصرّف أضعف ما يكون الحزم".
تحمل المقولة "سلطان غشوم .. " تصوّرا للسلطة، وربما تجنح إلى الحديث عن ضرورة السلطة باعتبارها أمرًا واجبًا، وليس من أحدٍ يمكن أن ينازع أن وجود السلطة وتنصيبها من الأمور الضرورية والواجبة للاجتماع الإنساني وإدارته، وسياسة العلاقات المرتبطة به، إلا أن من يهوّل من فكرة ضرورة السلطة التي لا مراء فيها قد يتجاهل ضروراتٍ أخرى ترتبط بالسلطة وضرورات وصف تصرّفاتها وإمضاء سياساتها.
يعبّر الاستقرار الزائف وتسويغ الرضا الكاذب عن تمويه على جوهر السلطة وظيفةً وأدوارًا وما يجب أن تقوم به
ومن المهم أن نؤكد، كما نتحدّث عن ضرورة السلطة، أن نتحدّث بالوزن والمقدار نفسيهما عن ضرورة الشرعية لها، فالجمع بين هذين الساقين في مسألة السلطة قضية أساسية، ليس فقط في طرحها النظري، ولكن كذلك فيما يترتب على تلك العلاقة من تقييم الممارسات، فالأمر هنا يتعلق لا بمطلق السلطة، لأنه لو تعلقنا بالفكرة الأولى لكان ذلك مبرّرا لكل سلطة مطلقة بلا قيد أو حد، وبلا شرط أو مانع، وهي من الأمور التي يجب أن نتدبّرها في مسألة شرعية السلطة والموقف من كل سلطةٍ غير مشروعة، وسلطات التغلب والاستبداد الممنوعة، وإلا لخرجنا من السلطة كآلة إلى السلطة مقصدا في حد ذاتها إقامةً وتنصيبًا، من دون التأكيد على شرعيتها رضًا وقبولًا وإنجازًا.
وتتعلق المسألة الثانية بالكيفيات التي ترتبط بالسلطان الغشوم؛ وكأن السلطان الغشوم هو من القواعد الضرورية لاستقرار الدولة أو تمريرها من أجل ذلك الاستقرار "المزعوم"، فإن قبول السلطان الغشوم من أجل معادلة الاستقرار والأمن إنما تتهافت ضمن هذه الرؤية التي يكون فيها السلطان الغشوم أحد مهدّدات الأمن القومي والإنساني لحكمه بالهوى وانفراده بالرأي، وتدبير كل ما يتعلق بسياساته وممارساته من أجل المحافظة على كرسي سلطانه، واستمرار سياسات طغيانه.
ومن هنا، يعبّر ذلك الاستقرار الزائف وتسويغ الرضا الكاذب، في حقيقة الأمر، عن تمويه على جوهر السلطة وظيفةً وأدوارًا وما يجب أن تقوم به، فماذا عن السلطان الغشوم الذي يدير سياساته بالظلم، ويحمي الفاسدين والظالمين؟ وماذا عن انتهاكاته لأمن الوطن القومي وأمن المواطن الإنساني؟، وماذا إن كان هذا السلطان الغشوم هو، في حقيقة الأمر، بممارساته هو المهدّد لاستقرار السلطة والدولة والمجتمع جميعًا؟ كل هذه الأسئلة تنهض لتواجه ذلك التهافت لتمرير تلك المقولة "الزائفة والملتبسة".
كما نتحدّث عن ضرورة السلطة يجب أن نتحدّث بالوزن والمقدار نفسيهما عن ضرورة الشرعية لها
وأيضا من المهم هنا أن يشار إلى مفهوم "الفتنة" الذي اتُخذ ذريعة لمواجهة سنة التغيير والالتفاف عليها، ومقتضيات التدافع السياسي مع سلطات الظلم والظالمين، وهو أمرٌ أتذكر معه أن بعض علماء الدين في مصر، حينما قامت ثورة يناير، وصفوها بالفتنة، تمريرًا لاستبداد حسني مبارك، وكان من بين هؤلاء عاملون في مكتب شيخ الأزهر، وكذا مفتى الجمهورية السابق. والمهم في هذا السياق أن تفهم مقتضيات التغيير ومواجهة الاستبداد والادعاء في وجه كل تغيير أنه فتنة إنما، في حقيقة الأمر، يغري المستبد باستمرارية استبداده، وألا يُحاسَب على طغيانه، فيقفون من سلطان الظلم بالدعم والمساندة وفي المجمل الارتكان للذين ظلموا.
ضمن هذا التحليل والتفكيك لهذه المقولة توثيقًا ومحتوى فإنه، في حقيقة الأمر، يجب أن نعيد صياغة هذه المقولة بالحق الواجب الذي يواجه تلك السلطة المستبدة وذلك السلطان الغشوم، ونعود إلى الأصل الذي يجعل هذا السلطان المستبد لا يستحقّ شفاعة، ولا يمكن أن تمرر له كل ما يتعلق بسياسات طغيانه أو ممارساته الفرعونية الفاشية. المقولة الحق التي يجب أن نعتمدها "السلطان الغشوم هو الفتنة التي تدوم، ما دام وما كان"، وأن النهوض بعملية مقاومة الاستبداد هي أصل أصيل من تصور السلطة ذاتها ورفدها بمسألة الشرعية الواجبة اللازمة، والعدالة الراشدة الفاعلة، فكيف يمكن أن نجعل تلك المقولة هي القاعدة في غيبة مسائل العدل والتأكيد على الإمام العادل الذي هو خصب الزمان، ولعل هذه المقولات الإيجابية تحتاج منا أيضا إلى بناء وتحليل.