في تنميط غزّة وتناسيها
اعتاد سكان قطاع غزة على تسليط الأضواء الإعلامية عليهم، وعلى أوضاع القطاع، في أثناء الحملات الإجرامية الصهيونية العسكرية التي يتعرّضون لها بين الفينة والأخرى، كما حدث في غضون معركة سيف القدس أخيرا، بينما تتراجع التغطية الإعلامية عنهم بعد مضي بضعة أيام على انتهاء الاعتداء الصهيوني، وبعد التأكد من استقرار الأوضاع الأمنية. حيث يعتبر تراجع الاهتمام الإعلامي أمرا غريبا، نظرا إلى تنوع الاعتداءات الصهيونية على القطاع، بل ويظل خضوع قطاع غزة إلى أطول حملة إجرامية عرفها التاريخ البشري الحديث بحدّه الأدنى. وهنا الحديث عن حصار غير إنساني فرضته الدولة الصهيونية منذ سيطرة حركة حماس على القطاع في يونيو/ حزيران من العام 2007، وهو ما يفرض على سكان القطاع مصاعب جمّة، يستحيل تحمّلها على امتداد هذه الفترة الطويلة جدا، فضلا عن تحمّلهم آثار العدوان الصهيوني العسكري دورياً، وتحمّلهم القيود الصهيونية الأخرى، وتحمل قرارات سلطة رام الله وجمهورية مصر العربية وممارساتهما المتماهية مع سياسات الحصار الصهيونية للأسف.
يعلم الجميع ما يتعرّض له قطاع غزة بحكم طول زمن الحصار، وتعدّد حملات الاعتداء العسكري صهيونيا. لكن ونتيجة تحوّل الحملات الإجرامية العسكرية الصهيونية إلى مناسبة لاجتذاب الاهتمام الإعلامي بالقطاع وسكّانه، بات لقطاع غزّة صورة نمطية يصعب الخلاص منها على الرغم من محدوديتها، إذ تم ربط القطاع بشكل تلقائي بحركة حماس، وكأنهما وجهان لعملة واحدة، وهي صورة نمطية خاطئة لا يصح الاستكانة لها، أولا بحكم عدم صحّتها، كما كشفت استطلاعات الرأي التي رصدت توجهات سكان قطاع غزة في فترة الإعداد للانتخابات، موضحةً مدى تنوع انتماءات سكان القطاع السياسية وتوجهاتهم، بل وكشفت عن حجم تراجع شعبية حركة حماس داخل القطاع. طبعا قد يقول أحدهم إن الحركة قد استعادت جزءا مهما من شعبيتها بعد معركة سيف القدس، وهو احتمالٌ قائم وربما صحيح، لكنه لا ينتقص من خطيئة ربط كامل سكان القطاع بحركة حماس.
يخوض سكان قطاع غزة نضالا يوميا غير ملحوظ بالعين المجرّدة للمراقب الخارجي غير المعني بالتدقيق، نظرا إلى غياب مظاهر الصدام والاشتباك اليومي
أما ثاني أسباب خطأ هذه الصورة النمطية، فيعود إلى أنها صورة قد عمّمتها الدولة الصهيونية، نعم الدولة الصهيونية التي تصر على ربط القطاع وسكانه بحركة حماس بصورة تلقائية، بغرض تبرير جرائمها المتواصلة والمستمرّة بحق القطاع، من الحصار إلى قصف المنازل والمدارس والمشافي والشوارع، ما يتسبّب في قتل المدنيين يوميا، نعم يوميا، فتراجع كفاءة القطاع الصحّي وقدراته تتسبب في قتل الفلسطينيين يوميا نتيجة غياب القدرات العلاجية أو محدوديتها، بما يقتل الأطفال والرضع، وهذه بكل تأكيد مسؤولية الاحتلال أولا وأخيرا. وثالثا كون هذه الصورة الخاطئة هي أحد ذرائع قطبي الانقسام الفلسطيني، التي تستخدمها حركتا فتح وحماس ذريعة لتمسّكهم بسلطة شكلية وهامشية، "حماس" في غزة و"فتح" في الضفة، فكل منهما يروّج رواية تربط سكان المناطق التي يسيطرون عليها بهم مباشرة.
وكذلك نلحظ تجليا خطيرا آخر لتعميم هذه الصورة النمطية عن قطاع غزة، تجليا ينتقص من فاعلية القطاع النضالية، الأمر الذي يتجاهل القيمة المضافة من نضال سكان القطاع، من خلال ربط هذا النضال بمظاهر المقاومة العسكرية فقط، وتحديدا بنشاطات حركة حماس العسكرية، في تكرار سمج للأسطوانة نفسها التي ترى في غزة "حماس" وفي "حماس" غزة. في حين يخوض سكان قطاع غزة نضالا يوميا غير ملحوظ بالعين المجرّدة للمراقب الخارجي غير المعني بالتدقيق، نظرا إلى غياب مظاهر الصدام والاشتباك اليومي مع مؤسسات الدولة الصهيونية، أو مع جيش المستوطنين، كما في النماذج النضالية الأخرى في باقي أرض فلسطين التاريخية. حيث ساهم القطاع ويساهم بفاعلية كبيرة في فضح ممارسات التطهير العرقي الصهيونية على مستوى فلسطين كاملة، متخذين من حصار القطاع غير الإنساني نموذجا لها. بل يمكن القول إن نضالهم قد مهّد الطريق لفضح حملات التطهير العرقي الصهيونية الممارسة في أحياء مدينة القدس، وتحديدا في حي الشيخ جرّاح وحي سلوان. وكذلك لهم جهود حثيثة في نشاطات حركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، من دون أن ننسى مسيرات العودة وغيرها من النماذج النضالية التي تتطلب بحثا عميقا ومنفصلا لحصرها وإبرازها وإعطائها حجمها الذي تستحقه، والتي كان جديدها، قبل بضعة أيام، على حدود قطاع غزة، خلال المسيرات التي انطلقت يوم السبت، 21 أغسطس/ آب الحالي، رفضا لاستمرار الحصار، وبهدف إحياء الذكرة 52 لإحراق المسجد الأقصى.
تحييد سكان القطاع عن مجمل فعاليات النضال الشعبي الفلسطيني هدف صهيوني بالدرجة الأولى
إذا هناك ربط قسري بين قطاع غزة وشكل نضالي وحيد، هو النضال العسكري، انطلاقا من سيطرة حركة حماس على القطاع، وانعكاسا لعمق الصراع الحمساوي - الفتحاوي. تماما كما يتم ربط العمل العسكري بحركة حماس فقط، على الرغم من مشاركة غالبية فصائل العمل الوطني بهذا الشكل النضالي، بما فيها الكتائب التي تتبع حركة فتح داخل القطاع أو بعضها على أقل تقدير. وعليه، نلحظ تبنّي مواقف متسرّعة من هذا الشكل النضالي، تبعا للموقف من حركة حماس أو نتيجة أخطاء في إدارة المعارك الميدانية أو السياسية، تضع مكتسبات المعركة الميدانية في جعبة بعض القوى الإقليمية، أو في جعبة "حماس"، من دون أن تنعكس، ولو بشكل بسيط، على أوضاع مجمل الفلسطينيين أو أوضاع سكان قطاع غزة، كما نلاحظه من متابعة أوضاع القطاع وسكانه.
من ذلك كله، تصبح معاناة القطاع وسكانه ونضالات القطاع وسكانه مجرّد تفصيل ثانوي لا يرى بالعين المجرّدة، لصالح مركزية حركة حماس بالصورة، مركزية يريد منها معارضو الحركة وأعداؤها اعتبارها ذريعة لاستمرار انتهاكاتهم بحق القطاع وسكانه، في حين تريد منها حركة حماس بوابة لولوج نادي اللاعبين المحليين والإقليمين، وربما الدوليين. وبالتالي، يدفع القطاع وسكانه ثمن توافق جميع اللاعبين والفاعلين من أعداء "حماس" ومعارضيها إلى مؤيديها وداعميها، على تهميش القطاع وسكانه، عبر تنميط صورة مغلوطة عنه، وتناسي قدراته وطاقاته النضالية التي لا تنبض. في حين اعتقد أن واجبنا الوطني والإنساني يقتضي نقل صورة القطاع الحقيقية، عبر إبراز حجم الإجرام الصهيوني اليومي بحقه وحق سكانه أولا، وفي إبراز قيمة النضال الشعبي داخل قطاع غزّة ثانيا. وفي دعم جميع أشكال النضال الشعبي داخل قطاع غزة ثالثا، بكل الوسائل الممكنة والمشروعة، فتحييد سكان القطاع عن مجمل فعاليات النضال الشعبي الفلسطيني هدف صهيوني بالدرجة الأولى. وللأسف قد يكون هدف القوى الفصائلية المهيمنة على مجمل المشهد الفلسطيني، وفي مقدمتهم حركتا فتح وحماس.