في دور المثقّف
س: بعد أن خذلت السياسة فلسطين، ما المنتظر من المثقف والثقافة أن يقدّموه لهذه القضية؟
ج: أشير الى أنني أصبحت أتحسّس من مصطلح المثقف، وأنا أتابع مواقف كثيرين ممن يوصفون بأنهم مثقفون عرب. أراجع تعريفي هذا المصطلح وفق ما أراه من مواقف تجاه كثير من قضايا الأمة، وخصوصاً القضية الفلسطينية وكل ما يتعلق بها. أصبحت هذه القضية تحديداً الامتحان والمعيار أمام الضمير العالمي كله، فما بالك بضمير المثقّف؟ ولأنني صُدمت بمواقف كثيرين وصمت آخرين وتردّد فئة ثالثة من المثقّفين في الشهور القليلة الماضية فقد زادت حالة التحسّس تجاه هذا المصطلح، وهي حالة بدأت معي منذ أيام الربيع العربي.
أستطيع الآن أن أعلن أنني كفرت فعلاً بهذا المصطلح إلا قليلا. كفرتُ بمن يسمّون أنفسهم مثقفين، ويطربون لهذا المصطلح كلما وصفوا به، من دون أن يعوا تبعاته، ولا المسؤولية المترتبة عليه. بل أصبح كثيرون منهم يستخدمونه بطاقة عبور نحو الضوء والنجومية والشهرة والجوائز والمهرجانات اللامعة من دون أن يلتفتوا وراءهم ولو قليلا! ولهذا أقول إن لا أحد الآن ينتظر من المثقف شيئا. لا أحد يصدّق أن المثقّف العربي تحديدا يمكنه أن يفعل شيئا حقيقيا لصالح القضية الفلسطينية، ولصالح واحدة من أخطر تجلياتها الراهنة وأعنفها، وهي أحداث غزّة المستمرّة قصفا وقتلا وتهجيرا وتجويعا منذ ما يزيد على أربعة شهور. ولا أظن أن أهل غزّة، الذين فقدوا ثقتهم بالجميع تقريبا خارج غزّة، يمكنهم أن يطلبوا مساعدة أو حلاً أو حتى مساندة من المثقفين أو غيرهم. قضيتهم بأيديهم وحدهم، وهم، بإذن الله تعالى، قادرون على الصمود، بعد أن أصبح الصمود السلاح الحقيقي والأول في وجه آلة الاحتلال الصهيوني. جرّبوا الموت والتهجير والجوع أيضا، ولم يعُد في يد الاحتلال سوى نزع الصبر من نفوسهم والصمود من وجدانهم والإرادة من قوتهم.. والتجربة الفلسطينية الممتدّة عقوداً تقول إن هذا هو المستحيل. والكيان الصهيوني يعرف ذلك تماما، ويعرف أن كل حروبه تنتهي بمواجهة صخرة الصمود الفلسطيني.
ماذا على المثقف أن يعمل في ضوء واقع كهذا الواقع بملابساته الواضحة؟ عليه أن يعمل لنفسه، أولاً وقبل كل عمل آخر، حتى يستحق على الأقل أن يكون مثقفاً حقيقياً. عليه، مثلاً، أن يؤكّد لنفسه أنه مثقف فيشتبك مع قضايا أمته، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. وعليه أن يثبت حرّيته واستقلاليته ومعرفته وتأثيره على الآخرين حوله. عليه أن يعرف فلسطين وكل التحوّلات المفصلية تاريخيا وسياسيا التي مرّت بها هذه القضية. عليه أن يسهم بتقديم تفسيره لسبب بقاء الكيان الصهيوني محتلّا فلسطين، وأن يعمل جاهدا على التعريف بذلك كله. عليه أن يستثمر معرفته في التأثير، وأن يسهم بتكون الرأي العام لصالح الحقيقة. عليه أن يعيد تكوين نفسه، وتشكيل رؤاه بما يناسب ضرورة أن يكون المثقف حرّا. عليه، مثلاً، أن يتخلّى عن ترف الانزواء في دائرة الكتب والكتابة في قضايا لا تشبهنا كأمة ولا تهتم بقضايانا. على المثقف أن يمسك حجراً، ولو على سبيل الترميز المعنوي، كما فعل ذات يوم إدوارد سعيد في جنوب لبنان، ليرمي العدو الصهيوني. عليه أن يؤكّد دوره في مناهضة كل ما من شأنه تأخير التحرير، وألا يخجل تحت وطأة دعوات السلام الاستسلامي من إعلان موقفه، إن كان لديه موقف، من الحرب حتى النصر. عليه أن يكون لديه موقف أصلاً. وعليه ألا يخشى في كل قضية مستحقة لومة لائم. عليه أن يكون إنساناً بضميرٍ حيٍّ قبل أن ينكفئ على الكتب ويحاضر في الندوات ويلتقط الصور في المهرجانات ... هل هذا صعب عليه؟