في ذكرى استقلال ليبيا
"نعلن للأمة الليبية الكريمة أنه نتيجة لجهادها، وتنفيذاً لقرار هيئة الأمم المتحدة الصادر في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، تحقق بعون الله استقلال بلادنا العزيزة"... بهذه الكلمات، أعلن الملك إدريس السنوسي استقلال ليبيا في 24 ديسمبر / كانون الأول عام 1951، في خطاب ألقاه من شرفة قصر المنار في بنغازي. ويحتفل الليبيون هذه السنة بالذكرى الـ71 لهذا الإعلان، وهم يعيشون ظروفاً اقتصادية وسياسية واجتماعية، تنغّص عليهم فرحتهم بهذه الأعياد الوطنية (على قلتها). والذكرى هي لبطولات آباء وأجداد ناضلوا من أجل وحدة ليبيا، بعد أن آمنوا بقضيتهم العادلة في الحرية والاستقلال، إلّا أنّها تمرّ، في كلّ سنة وقد ازدادت مأساة الوطن والمواطن، وسيطرت حالة من الاستياء على الشارع في كلّ ذكرى من هذا العيد الوطني، سيّما بعد أن خيب السياسيون الآمال في الوصول إلى انتخاباتٍ كان يمكن أن تجرى بمناسبة هذه الذكرى في العام 2021، لكنّ متصدّري المشهد أبوا، مع سبق إصرار وترصد، أن يكونوا خير خلفٍ لسلفٍ تنازل من أجل مصلحة الوطن، عندما أيقن أنّ وحدته وأمنه واستقراره على المحك.
ولعلّ ما قام به الزعيم بشير السعداوي (1884- 1957) سيظل شاهداً على تضحياتٍ بُذلت للمحافظة على وحدة ليبيا، فعلى الرغم من وجوده في ظروفٍ جيدة خارج الوطن، فقد فضّل الرجوع إلى ليبيا، عندما أدرك أنّ نتائج إيجابية ستكون لرجوعه في الوصول إلى اتفاق بين الفرقاء السياسيين، إذ شهدت ليبيا، في تلك الفترة، تجاذبات واختلافات كثيرة. وبالفعل، ساهم رجوعه في عقد مؤتمر غريان، وانتخاب حكومة وطنية سمّيت "هيئة الإصلاح المركزية"، ولعب دوراً بارزاً في جمع كلمة الليبيين واتفاقهم على كلمة سواء، ثم ترك البلاد طواعية من جديد، بعدما أيقن أنّ وجوده قد يساهم في تردّي الأوضاع السياسية، وربما يكون معول هدم لاستقلالٍ بناه هو ورفاقه، على الرغم من الأكثرية، والدعم الذي كان يتمتع به في شرق البلاد وغربها.
تأتي ذكرى الاستقلال، وليبيا في أسوأ حالاتها، تعيش صراعات وتجاذبات تزداد سوءا في كل سنة، حتى أصبح التقسيم تطرحه، وبقوة، حلا وحيدا، أطراف ما كانت تجرؤ على البوح به تصريحاً أو تلميحاً. وأصبحت تسوّق أفكارها الانفصالية، بعدما أيقنت أنّ الحكومات المتعاقبة أوصلت المواطن الليبي إلى القبول بأي مشروع يرى أنه قد ينهي مآسيه، وينتشله من هذه الأزمات، ويتعلق به كما يتعلّق "الغريق بقشّة"، في تقسيم أصبح واقعاً معيشاً، وإنْ بصورة غير رسمية، فالحكم تتنازعه سلطتان، إحداهما في الشرق والأخرى في الغرب، وسط انقساماتٍ لكلّ مؤسسات الدولة، وانتشار لمليشياتٍ لا تخضع لأي سلطةٍ، ولا تلتزم بأي قوانين، بل أصبحت هي السلطة، وهي القوانين، ولا تملك الحكومات التي تعاقبت على البلاد سوى التقرّب منها والتودّد لها، وأغدقت عليها الملايين من أجل كسب رضاها، لتكون راعية لها وحامية لوجودها.
صور القائد البطل وصور أبنائه أصبحت مسيطرة على كلّ لافتات الشوارع في بنغازي، وتفنن المتملقون في حجم هذه الصور وتنوّعها
في الشرق الليبي الذي شهد إعلان الاستقلال، سيطر فردٌ وأبناؤه على مقاليد الأمور، وأعاد الإقليم إلى تلك الحقبة التي لم يكن يسمع فيها سوى صوت واحد، وتخوين كلّ صوتٍ يجاهر بوجهة مخالفة أو رأي ناقد وشيطنته، وعاد زوّار الظلام يقتحمون كل من يتجرّأ على "القائد المنتصر بالله". أما التهمة فهي دائماً جاهزة، التعامل مع الإرهابيين أو التخابر مع الإخوان المسلمين، وهي تهمةٌ تجعله يقبع في سجون سرّية من دون أن يستطيع أحدٌ من أفراد أسرته معرفة مكان احتجازه أو الجهة التي اختطفته. أما صور القائد البطل وصور أبنائه فقد أصبحت مسيطرة على كلّ لافتات الشوارع في بنغازي، وتفنن المتملقون في حجم هذه الصور وتنوّعها وانتقاء الشعارات التي تسبّح بحمد هذه العائلة، من دون أن يكون الحق لأيّ فرد من المدينة أن يعترض، ولسان حال الجميع يقول "وكأنك يا بوزيد ما غزيت".
لا يختلف الحال في الغرب الليبي كثيراً، فعائلة أخرى تتحكّم في كلّ أمور هذا الإقليم. ساعدها في ذلك وجود مصرف ليبيا المركزي تحت سيطرتها، ما جعلها تبعثر المليارات، كما جاء في كلّ تقارير الرقابة وديوان المحاسبة، من دون أن يلمس المواطن أي تحسّن في خدمات، أو انفراج في أزماتٍ أصبحت ملازمة له، بل على العكس من ذلك، ازداد وضع قطاع الصحة سوءا حتى أصبحت المستشفيات العامة تفتقر إلى أبسط الإمكانات، ولم يعد من خيار أمام المواطن إلّا التوجّه إلى العيادات الخاصة التي استغلت هذا الوضع، وضاعفت أسعارها بطريقة جنونية، أو السفر إلى البلدان المجاورة لمن تسمح ظروفه بذلك (وهم قلة)، وقد أصبح ما يدفعه المريض الليبي من أموال فيها يمثل نسبةً لا يُستهان بها من دخل هذه الدول، وقد تعرّض كثيرون من هؤلاء المرضى إلى عمليات خداع وابتزاز، جعلتهم "كالمستجير من الرمضاء بالنار". أما التعليم، فخروج ليبيا من معظم مؤشّرات الجودة دليل على ما وصل إليه قطاعٌ أصبحت تباع شهاداته العلمية على الملأ، وفي إعلانات على مواقع التواصل الاجتماعي.
يبقى الأمل قائماً في يوم يصبح فيه 24 من ديسمبر فعلاً عيداً وطنياً، تستقل فيه النخب بقرارها وتفكيرها، وتتغلب على مطامعها الشخصية
وما بين ما يحدُث في الشرق والغرب الليبيين، أصبح الاستقلال مناسبةً يستغلّها الحداق لصرف الملايين على احتفالاتٍ أصبحت مصدر رزق لفنانين كثيرين مرموقين محليين وعرب. أما المواطن فتزداد أوضاعه تردّيا، حتى يكاد ينسى أن دولته استقلّت في يوم ما، سيما وأن القرار 1973 الصادر من مجلس الأمن، وما زال يمدّد سنويا، قد أعاد إلى ليبيا ما يشبه الوصاية الدولية، وأصبحت الدول المتداخلة في الوضع الليبي والمستفيدة منه تعلن، وبدون مواربة، حرصها ودفاعها عن وجودها من أجل تحقيق مصالحها. ولم يعد سرّا وجود القوات التركية والروسية والإيطالية والروسية في بلدٍ أصبحت حكوماته تنصّب من الخارج، وتدار من حكومات دول خارجية. ويجوب سفراء تلك الدول ليبيا، ويعقدون اجتماعات مع جميع المكونات الثقافية والاجتماعية والسياسية في القبائل، مع تركيز ملحوظ على الأقليات، تحت غطاء احترام آرائها وسماع صوتها وضرورة وجود من يمثلها في كل خيار، من دون اعتبار للأعراف المتبعة للدبلوماسية، مستغلّين حالة الضعف والتشظّي التي تعيشها البلاد، ومحاولة الاستفادة من الانقسام السياسي بما يخدم مصالح دولهم. ولعل تسليم المواطن الليبي، مسعود أبو عجيلة، ما كان ليتم، لولا نشاط الدبلوماسية الأميركية التي جعل الكل يحاول إرضاءها بأي ثمن، لمعرفتهم أنّها قادرة على تنصيب من تشاء ومعاقبة كل من يحاول شقّ عصا الطاعة.
في كل حال، وبعد هذه السنوات، صار الليبيون يتألمون كلما يتذكّرون تضحيات الأجداد والأبناء. ولم يعد لهذه المناسبة معنى، بعد أن أصبح كلّ شي في حياتهم يتطوّر بشكل سلبي. وأصبحت النخب السياسية تتقاذف ليبيا بأياد محلية محميّة إقليمياً ودولياً، تلعب بمستقبل الوطن، لتتركه للقضاء والقدر. أما حاضره فيكفي للدلالة عليه أنّ ظفر المواطن بالحصول على مرتبه أصبح حدثا يستحقّ الإشادة، وكذلك تعبيد طريق بطول نصف كيلومتر إنجازاً، ويشارك في افتتاحه رئيس الحكومة وتُفرد له الفضائيات الحكومية ساعات من البث.
مع كلّ هذا الإحباط، يبقى الأمل قائماً في يوم يصبح فيه 24 من ديسمبر/ كانون الأول فعلاً عيداً وطنياً، تستقل فيه النخب بقرارها وتفكيرها، وتتغلب على مطامعها الشخصية من أجل وطن يستحق ذلك، وعندها فقط يعرف الجميع أنّ العيد أتى بأمر فيه تجديد.