في ذكرى ثورة 23 يوليو
ما دمنا نمتلك الرغبة في تصويب المفاهيم المستقرّة في عقولنا ووجداننا، فالحريّ بنا، حينما نتحدّث عن ثورة 23 يوليو 1952، التي مرت ذكراها الأسبوع الفائت، أن نستبعد كلمة "ثورة"، ونؤكّد أن ما حصل انقلاب عسكري، أطاح آخر الملوك من سلالة محمد علي، وحوّل مصر من ملكية إلى جمهورية. وإنه لمن الطريف أن كل الانقلابات العسكرية التي نجحت في دحر السلطة الحاكمة والحلول مكانها، في دول عربية أخرى، مثل العراق وسورية وليبيا، أطلق عليها الضباط الانقلابيون اسم "ثورة"، ووضعوا بجوارها ما طاب لهم من صفات، مثل حرية، واشتراكية، وديمقراطية، وشعبية، إلى آخر ما هنالك من المصطلحات التي نُسِبَتْ زوراً إلى الشعب الغلبان، بالإضافة إلى رفع السلطات الانقلابية شعارَ وحدة الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، الذي اجتاح القسم الأكبر من البلاد العربية.
من الطبيعي أن يُنشئ انقلاب 23 يوليو أوضاعاً جديدة، ويعيد تشكيل النظام السياسي في مصر، ولكن المعضلة الأساسية أن الضباط الذين أطلقوا على أنفسهم صفة "الأحرار"، فيهم واحد برتبة لواء، محمد نجيب، والباقون ذوو رتب صغيرة، أعلاها بكباشي (مقدّم)، وكانوا مختلفي التوجّهات، بين قومي عروبي، وليبرالي ديمقراطي، ويساري اشتراكي، ومؤكّدُ أنهم لم يضعوا تصوّراً للحكم الذي سيعملون على تأسيسه بعد نجاح الانقلاب، لذلك دخلوا في تنازعاتٍ بينية، حسمها البكباشي جمال عبد الناصر، عندما تمكّن من تنحية اللواء نجيب، ووجه، في سنة 1954، ضربةً ماحقةً لمرتكزات الحالة الليبرالية، أو الديمقراطية التي كانت ساريةً في العهد الملكي، مثل استقلال القضاء، والصحافة، وحرّية تشكيل الأحزاب، والفصل بين السلطات، حتى إن القوى السياسية، المتشبّعة بمبادئ الدستور، تمكّنت من منع الملك فاروق من أداء القَسَم في الأزهر، وألزمته بأن يؤدّيه في البرلمان.
يقتضي الإنصاف القول إن عبد الناصر اشتغل على تطوير الصناعة، وبناء جيشٍ كبير وقوي، ومع أن تأميماته الصناعية والزراعية أضرّت بالاقتصاد المصري، ولكنها حقّقت نوعاً من العدالة الاجتماعية، وأدخلت طبقاتٍ كانت هامشية إلى ميدان العمل والإنتاج. ولكنه، في الوقت ذاته، أطلق يد القوى الأمنية في البلاد، وأسّس حالة بيروقراطية مزعجة، حتى إن الفنان العالمي عمر الشريف يقول، في مقابلة تلفزيونية، إن السفر من مصر والعودة إليها أصبحا يحتاجان إلى تأشيرتي خروج ودخول، بالإضافة إلى "وثيقة حسن سيرة وسلوك"! وهذه تتطلّب أن تتقدّم بطلب، ويحيلونك على مكان آخر، وتقف أمام الباب ساعة، أو أكثر، ثم تدخل ليقابلك ضابط "مش فاهم حاجة"، يسألك، وهو جالسٌ على كرسيه وأنت واقف، رايح فين؟ وليه؟ تقول له رايح أمثّل، فيسألك: إيه؟ تمثّل؟ ازّاي يعني تمثل؟
ولم يكن عبد الناصر، وهو الضابط العسكري، يمتلك ثقافة خاصة، أو فكراً مميزاً، وكان أن وضع مصر ومستقبلها رهينة لارتجالاته السياسية، فأدخل البلاد في حروب جانبية، سبّبت خسائر مادية وبشرية هائلة، منها حرب 1956، وحرب اليمن، وحرب 1967. ودخل في تجربة وحدة ارتجالية مع سورية، أدّت إلى ضرب الحكم الليبرالي الذي كان في طوْر التشكل في سورية، فحلّ الأحزاب، وأغلق الصحف، وأطلق يد المكتب الثاني (المخابرات) في البلاد، وأجهز على ما أنجزته البرجوازية الوطنية السورية، فأمّم المصانع، وجعلها تتّجه نحو الإفلاس، وهربت رؤوس الأموال المتبقية من البلاد خوفاً من شبح التأميم. وعندما حصل الانفصال، في سنة 1961، وأراد الوطنيون السوريون، استعادة خط سير الدولة التي كانت قبل الوحدة، عاجلهم ضباط ناصريون وبعثيون بانقلاب آخر، أتى بنظام حكم ديماغوجي، استبدادي، بقي يتصاعد في مجال القمع حتى وصل، مع حافظ الأسد، ووريثه، إلى مرحلة التدمير الشامل للبلاد.
الأغرب من كل ما ذكر أن الأحزاب التي تشكلت في حبّ عبد الناصر في سورية حملت اسم "الناصرية"، فكأنه فيلسوف، عبقري، مؤسّس لدولة عظمى.