في ذكرى هجمات سبتمبر الكئيبة
تمرّ هذا الأسبوع ذكرى مرور عقدين على هجمات "11 سبتمبر" التي استهدفت الولايات المتحدة في رموز كبريائها المالي والعسكري والسياسي. وعلى الرغم من حصول إجماع عالمي على إدانة العمل، واتفاق على تسميته إرهابا، إلا أن المواقف تختلف، بعد هذه النقطة، اختلافا بينًا، بحسب ما نجم عن الهجمات من نتائج. الولايات المتحدة تعدّها، بطبيعة الحال، كارثة وطنية كبرى، إذ تسببت في قتل نحو ثلاثة آلاف من مواطنيها، ثم تكبّدت آلافًا آخرين من القتلى في الحروب التي أطلقتها على الأثر، وأنفقت فيها أيضًا تريليونات الدولارات. ولم تتوقف التداعيات أميركيًا عند هذا الحد، ففي بداية الهجمات، أقبلت الولايات المتحدة، تروم الانتقام لكبريائها، بوصفها قوة عظمى لا ندّ لها على الساحة الدولية، وأدبرت، في نهايتها، دولة منهكة تكافح من أجل الحفاظ على تفوقها ومكانتها العالمية. الأفغان والعراقيون تكبدوا أيضا خسائر فادحة بسبب هجمات سبتمبر/ أيلول، إذ أقدمت الولايات المتحدة بعدها على غزو بلديهما، وتدمير أسس النظام الإقليمي في المشرق العربي، باحتلالها العراق وتشريعه على الفوضى. وفي سياق سعيها إلى تغطية إخفاقاتها، ساهمت الولايات المتحدة، فوق ذلك، في صعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بغضّها الطرف عن السياسات الطائفية التي انتهجتها إيران وحلفاؤها الذين جاؤوا إلى السلطة في العراق على ظهر الدبابات الأميركية، ما تسبّب بكارثة جديدة طاولت أرجاء المنطقة.
على الطرف الآخر، كانت إيران، الصين، وروسيا، المستفيد الأكبر من هجمات سبتمبر، إذ خلّصت إيران، من دون أدنى جهد، من عدوين لدودين: فإلى الشرق منها أسقطت واشنطن حكم حركة طالبان في أفغانستان، وإلى الغرب أسقطت نظام "البعث" في العراق، لتعطي تيار الأصوليين القوميين في إيران، ومشروع الهيمنة الإقليمية الذي حملوه، "قُبلة الحياة"، بعد أن كان معزولا يحتضر مع وصول الرئيس محمد خاتمي إلى الحكم في طهران. أما الصين، التي انشغلت عنها واشنطن بحروب استنزافٍ عبثيةٍ في العالم الإسلامي، فانتقلت خلال عقدين من دولة طرفية في النظام الدولي إلى ثاني اقتصاد في العالم ومنافس تكنولوجي وعسكري شرس للولايات المتحدة. روسيا أيضًا حققت مكاسب كبرى، وإن لم تكن بحجم مكاسب الصين، إذ انتقلت من دولة منهارة، فقيرة، مرهقة بالديون بعد انتهاء الحرب الباردة، إلى قوة ذات وزن على الساحة الدولية، تقود مع الصين معسكرا يسعى إلى تقويض النظام الليبرالي الدولي الذي تقوده واشنطن وإنشاء نظام جديد قوامه رأسمالية أوتوقراطية.
الآن، وبعد عشرين عامًا، تبدي واشنطن تعبًا من حروبها في العالم العربي – الإسلامي، وتعلن رغبتها في المغادرة، تاركة وراءها حطام أمة، ودولا فاشلة تتناهشها المليشيات، وحروبا لا تريد أن تضع أوزارها في سورية واليمن والعراق، فقط لأن إيران تريد تحسين شروط الاتفاق على برنامجها النووي، وتأمين خطوط للدفاع عن مشروعها الإقليمي. لا تكتفي واشنطن في الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر في الإعراب عن رغبتها في الانسحاب بأي ثمن، وكيفما اتفق، كما فعلت في أفغانستان أخيرا، بل تريد من شعوب المنطقة العربية أن تموت بصمت، ومن دولها أن تلزم الهدوء والصبر إزاء محاولات تقويضها وتفكيكها، فهي لا تريد أن يشغلها شيء، أو يشتّت انتباهها أمر، عن التحدّي الأعظم الذي يواجهها: الصين. من الجيد طبعًا أن نرى الولايات المتحدة تشجّع على حصول انفراجات، وتحثّ دول المنطقة على إجراء عملية إعادة حسابات لسياساتها ومواقفها، بدلا من تأجيج الخلافات وتعقيد الأزمات، كما فعلت إدارة ترامب في أزمة 2017 الخليجية. ولا بأس حتى في أن تخفّف واشنطن من حضورها العسكري الثقيل في المنطقة، إذا كان هذا يؤدّي إلى تعزيز فرص تحقيق الاستقرار فيها، ويقلّل حدة التنافس بين دولها، بما في ذلك على إرضاء واشنطن وتقديم الخدمات لها. لكن واشنطن يجب أن تفعل ذلك في إطار مقاربةٍ شاملةٍ تنخرط فيها بشكل جدّي لإعادة بناء ما دمرته سياساتها في المنطقة خلال عقدين، بدل أن تطلب منا دفع ثمن التهدئة الإقليمية التي تسعى وراءها، فنكون بذلك قد دفعنا ثمن هجمات سبتمبر مرتين: عندما غزت واشنطن المنطقة وقوّضت أركانها، ثم وهي تخرج منها بعدما دمّرت موازين القوى فيها.