في سر قصيدة النبط
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية
تسمّى في المغرب قصيدة الزجل، وفي عُمان، وربما في أجزاء أخرى من الوطن العربي، تسمّى قصيدة النبط. ولكن، ما السر وراء استطاعة شاعر فِطري ذي ثقافة نظرية بسيطة، اجتراح إبداع ذي بلاغة ملفتة؟ لن أحار جوابا حين أرتكن إلى استنتاج مباشر وبديهي وسريع، مفاده بأن اللغة التي يكتب بها شاعر النبط هي نفسها التي يتحدّث (بها) ويفكر. وبالتالي، هي اللغة نفسها التي يشعر (بها) ويعبّر. ومن خلال ذلك الاعتمال، يخرج لنا ما نسمعه وما نقرأه في لوحاتٍ معبأة بشعرية البلاغة الشعبية واستكناه مظانّها ومسالكها، الساخر منها والمباشر، المتنكّر منها والسافر.
وهذا ما كان يحدُث بالضبط في شعرنا العربي الكلاسيكي، فالشاعر كان يعبّر باللغة نفسها التي يتحدّث بها. ولذلك حين تراجعت الفصحى عن منطقة الملفوظ، واستقرّت في منطقة المكتوب، تراجعت رأسا بلاغة الشعر الكلاسيكي وفصاحته. أليس هكذا كان يفعل عبقري العربية، أبو الطيب المتنبي، حسب نقاده الكثر، حين كانت القصيدة تأتيه منقادةً يراوغها ويستمرئها، لتذوب وتتماهى في دخيلته، كما يذوب الدهان في اللسان؟ ألم يكن المتنبّي يكتب باللغة نفسها التي كان يفكّر ويتـأمل بها؟
هذا ربما ما جعل القصيدة الشعبية تتفوق جماهيريا على الشعر الفصيح، بل إن الغناء العربي الآن لا يلتفت إلا للشعر النبطي. ربما لأن صياغة الشاعر فيها فطرية ومتّسقة مع منطوقه وحاله، فموهبته ستذهب مباشرة نحو تشكيل الصورة من دون الحاجة الى إعمال العقل طويلا في البحث عن مفردات عبر قاموس الفصحي، فشاعر النبط لا يحتاج لاكتشاف صور جديدة سوى إلى يقظة الموهبة وتوثبها الفطري تجاه الإيماءات الأكثر سرّية للمعنى.
"قلبي توله به – والعين فرّت فيه" استوقفني هذا المقطع بكثافة بلاغته، وهو من تأليف امرأة من جزيرة مصيرة العُمانية. استمعت إليها مصادفة عبر برنامج عن الشعر النبطي، يبث مساء في الإذاعة. .. تطير العين في هذه الصورة وتفرّ بعد أن نبهها القلب.
تتطوّر قصيدة النبط بسرية وبطء، ولكن بسرعة مدهشة، في مقابل الركود الذي تشهده القصيدة الفصيحة بكل مشاربها واتجاهاتها. كان آخر الكبار محمد مهدي الجواهري، وما زلت أتذكّر قصيدته القوية في مديح الملك حسين، وقصيدته في رثاء أخيه التي مطلعها "أتعلم أم أنت لا تعلم/ بأنّ جراح الضحايا فم"، وقصيدته الشهيرة "يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا، حتى لأدنى طماح غير مضمون".
تتطوّر هذه القصيدة (قصيدة النبط) الأقرب إلى حركة الشفاه واعتمالات الأنفس والأنفاس. تتطوّر من شاعر إلى آخر، ولن أحدد هنا الأسماء، حين أذكر أمثلة لشعراء عُمانيين من أمثال: حمد الخروصي، أحمد الشحي، أحمد المسلط، مسعود الحمداني، محفوظ الفارسي، ناصر البدري، عبد الحميد الدوحاني ... إلخ، لنكتشف مدى الاكتساح البطيء لهذا المتن الآخذ في الصعود شعبيا عبر منابره المنتصبة باستمرار، وذوقيا عبر تحريك أجنحة الخيال والطيران بها إلى ما وراء حدود الدهشة والإبهار، وذلك من خلال لغة "لهجية" هي أقرب إلى السمع منها إلى العقل، وبلاغة هي أقرب إلى العقل منها إلى القاموس البلاغي بمعناه المستقر والمألوف. حيث لم يرد أي قاموس بلاغي لهذه القصيدة، سوى بلاغة الذوق وميزان التلقي، وربما هو الأمر الذي جعلها حبيسة الجلسات الشعبية ومراوحات المناسبات والمواسم وبعيدة، بالتالي، عن تناول البحث المنهجي، الأمر الذي يحتاج ربما إلى صبرٍ كثير، حتى يتم الاتفاق والتعارف على أهمية هذا الصوت الصاعد برشاقة إلى الحياة، والمؤثر فيها ذوقيا، فكما استطاعت قصائد الشعر الحديث (تفعيلة ونثراً) من أن تلعب دورا واضحا في ترقية الذائقة اللغوية، فإن قصيدة النبط لا ريب في أنها ستساهم كذلك في تطوير الذائقة الجمالية وتقوية الإحساس عبرها وتفعيله، وذلك من خلال مسارب (وردهات) اللهجة الدارجة التي ترتفع ظلالا وموسيقى، من خلال هذا النوع الشعري، لترتقي من مستواها التوصيلي التداولي المألوف إلى المستوى التصوّري الجمالي الموثق عبر حزمة من القصائد الخارقة للعادة السمعية، ترفعها أجنحةٌ عابرة الذكر والصيت إلى مرافئ القلوب وسفن التذكّر.
كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية