في صحة البطريرك العسكري
ليس فقط مشيرًا سابقًا، ولا وزيرًا للدفاع سجل رقمًا قياسيًا في البقاء على رأس المؤسسة العسكرية المصرية، 21 عامًا كاملة، هي ذاتها المدة التي شهدت تغيير سبعة وزراء دفاع مصريين في المرحلة السابقة عليه.
يمكن أن تطلق على المشير، حسين طنطاوي، لقب "المرشد الأعلى للجيش"، أو تصفه بأنه "بطريرك العسكرية الراهنة". ولعل ذلك يبدّد الدهشة من صدور فرمان عسكري يحذّر وسائل الإعلام من الخوض في أنباء الحالة الصحية لطنطاوي، بعد تداول شائعات رحيله عن أكثر من 86 عامًا.
لهذا القلق ما يبرّره، فالرجل وإن كان في ذمة الغياب والصمت التام منذ أكثر من عام، إلا أن جذوره الضاربة في عمق المؤسسة العسكرية جعلت له دورًا، أو وظيفةً وجوديةً في ضمان هيمنة ابنه وصنيعته عبد الفتاح السيسي على الجيش من جهة، وهيمنة الجيش على السياسة والاقتصاد من الجهة الأخرى.
في حفله الليلي الساهر الأخير، أعاد السيسي التهديد بالجيش، معلنًا للجماهير أنه يحكم بشرعية الجيش، ويستمد قوته وجبروته من كونه الحاكم بأمر الجيش، أو باختصار شديد، السيسي هو الجيش والجيش هو السيسي "قبل ما يحصل حاجة لمصر يبقى أنا والجيش لازم نروح".
بمنتهى الوضوح، يقايض على مسألة بقائه ورحيله، بتوجيه رسالةٍ مباشرة، إن في بقائه بقاء الجيش، ورحيله يعني رحيل الجيش، وهي صيغةٌ تستخدم كثيرًا لإخافة الأطفال كي يناموا، والشعوب المقموعة كي تكفّ عن الأسئلة.
المشير طنطاوي هو صانع هذه المعادلة منذ حملته المصادفة، ليكون حاكمًا على مصر بشرعية الخوف من الانفلات الأمني والرعب من زوال الوطن، وهي معادلةٌ شرّيرة يتم فيها تحويل الجيش من مؤسسةٍ مهنيةٍ مملوكة للشعب، إلى كائن حي خرافي القوة يتحرّك على الأرض ويذهب ويجيئ ويلوّح بالانسحاب والاختباء، تاركًا الناس يواجهون خطر الفناء، إن هم رفضوا له طلبًا، أو عصوا له أمرًا، وهي وضعية بطريركية تمنح الجيش قوة سيطرة كهنوتية، تحوّله من واحدٍ من مرافق الدولة، مثل مرفق الصحة أو السكة الحديد أو الزراعة، إلى مؤسسةٍ ذات قدسيةٍ ينبغي أن يخضع لإرادتها ورغباتها الجميع.
بهذا المعنى، طنطاوي هو بطريرك العسكر الجدد، وأحد الأقانيم المقدّسة لمؤسّسة الاستبداد والثورات المضادة، وقائدًا أعلى لمشروع الانقلاب العسكري، من أجل إخضاع الشعب لسطوة المؤسسة العسكرية مرة أخرى، بعد ومضة زمنية من التحرّر في أعقاب ثورة يناير 2011.
هو حامل لواء الكراهية والانتقام من الثورة ومن ميدان التحرير، وأول من فكّر في طريقةٍ لتحضير عفريت الاحتراب المجتمعي والاقتتال الشعبي، بصيحته الشهيرة عقب مجزرة ملعب بورسعيد "هو الشعب ساكت عليهم ليه"، قاصدًا أولئك "الأعداء" الذين يطالبون بإنهاء حكم العسكر، وإعادة السلطة للشعب.
لذلك، لم يفرح أحد بانقلاب السيسي على اختيار الشعب في صيف 2013 مثلما فرح المشير طنطاوي الذي لم تمنعه شيخوخته من التجوّل في ميدان التحرير بسيارته، محتفلًا بالانتقام من الثورة وكيدًا للثوار، ولم لا وهو المصاب بعقدةٍ مزمنةٍ من ميدان التحرير، الذي أسقط المشير العجوز من أعلى السلطة، وأجبر طنطاوي على تسليم السلطة التي سقطت في حجره بعد 11 فبراير/ شباط 2011 للمدنيين، بعد المذابح التي ارتكبتها قواته الأمنية بحق الثوار في أحداث شارع محمد محمود وأمام مجلس الوزراء.
لكل ما سبق، من الطبيعي أن تفرض البطريركية العسكرية سياجًا من السرّية على أحوال البطريرك العجوز، أو الخيط الناظم لهذا التنين المخيف، الذي يتحكّم في البلاد والعباد.