في ظل يوميّات سيلفيا بلاث
قراءة اليوميّات واحة، للكاتب أو الكاتبة، وللقارئ أيضا، بلا احتشاد من الكاتب لنيْل علامات العبقرية بصعوبة الرموز وغموضها، ومن دون عسر أو جهد من القارئ لفكّ تلك الرموز، ومع بساطة الغرض، يكون كمال الرسالة بسيطا من الكاتب، وسهولة التلقّي لدى القارئ أيضا.
هي حياة عادية يراعى الكاتب ألا يكون فيها مخلّا بحقّ الكتابة وجمالياتها، مع يُسر للقارئ في تتبّع حياة الكاتب والشغف بها، على اعتباره كان قبل ذلك، في كتاباته، يمثّل له ذلك الكائن الغامض البعيد عنه بمفردات حياته ومتطلباته اليومية، كتابة اليوميّات بها البساطة اليوميّة أمام الأشياء اليومية المتداولة والعادية بلا تعثّر أو عنت، هي كتابة يتخفّف فيها الكاتب عامدا من أحماله وثقافته ومعارفه بحثا عما يحسّه أو يراه أو حتى يتوهّمه أو يحلم به أو يتذكّره أو يخشاه، فهو مربوط باللحظة والأشياء الزائلة والانتظار والحب والجمال والتوجّس من الخيانة أو الوهم بها.
اليوميّات هي رغبة ملحّة، وليست كواجب مدرسي مملّ، في قول الذات وفضحها على الورق والنظر إلى الكون وسؤاله أيضا، بوابة مباشرة للقول والتفلسف والتأمّل وملامسة اللهفة واليأس الكامن ما بين الأشياء، حتى في أوقات العشق، كما هو الحال مع سيلفيا بلاث، فمن أي طاقةٍ جهنّميةٍ تسرّب إليها ذلك اليأس القاتل في كل خطواتها، وهي الرابحة في كل شيء، حتى حينما تكتب قصّة ما؟ ما نهاية أحزان الكاتب؟ وما بدايتها؟ وهل البداية تختلط بالنهاية، فلا نعرف، أو لا يعرف لها هو أولها من آخرها، وكأن الكاتب خُلق لهذا الحزن الشفيف؟ ومن هو ذلك العبقري الذي يستطيع أن يتخلّص من أحزانه أولا بأول بالكتابة ومن خلال الكتابة أو هكذا يبدو، ويعيش في حالة انسجام ظاهري أو شبه تماسك وقورٍ مع أيامه وأحواله وتوجّهاته، كما هو الحال مع نجيب محفوظ مثلا؟ ولماذا فشلت سيلفيا بلاث في هذه المعادلة، والتي كان من الممكن أن تفعلها سيدة أقلّ منها جمالا بكثير وأقلّ منها موهبة بكثير، وتمشي المراكب بها متهادية سعيدة من جائزة إلى جائزة ومن بلد إلى بلد ومن جامعة إلى جامعة ومن ترجمة إلى لغة أخرى إلى ترجمة ثانية وعشرين ومائة ومن عشق إلى آخر، ومن حولها الأحفاد؟
"... قد أعود يوما مضروبة مثل كلب، لكن لا يهمّ طالما صنعت قصصا من حسرتي في الحب، جمالا من الحزن"، رهان عجيب وقراءة عجيبة للذات وللحب والحسرة في سطرين فقط، "... يا إلهي ، لكن الحياة هي: وحدة"، رغم الأفراح والحب والتنقل من تجربةٍ إلى أخرى، إلا أن الروح الشفافة ترى بكل وضوح أن كل تلك الكثرة ما هي في جوهرها سوى وحدة ما، وحدة نراها تتجلى في ذلك المهرجان المنصوب من طموحات وحب ونجاح، نخرُج غالبا فيها من جرح إلى جرح ومن مصاب إلى مصاب، هل كان ذلك كله مربوطا بجوهر الحياة، حياة سيلفيا، هو الذي عجّل بنهايتها المبكّرة ؟ "... كي تكتشفي أن الحبّ لا يمكن أن يصبح أبدا حقيقة".
القلب المعذّب يرى عن بعد أن ذلك الجبل من الأوهام الجميلة التي تحيط بنا من كل جانب: الحب، لن يكون أبدا حقيقة، وهذه ليست قسوة أحكام، بل رؤية قلبٍ اختبر العلاقات، ودفع الثمن غاليا، قلب ذاق المتع وعرف عن قرب، لا مجرّد فلسفة، ولا كرد فعل لأطماع، ولا عن فشلٍ ما، فمجمل حياة سيلفيا كانت مليئة بالتحقّق الذي تسعى إليه أية جميلة في مثل عمرها ووضعها، هل الجمال نفسه يكون هو سهم التعاسة في بعض الأحيان مع الموهبة بالطبع؟، إذن، ما هي الحقيقة أصلا التي كانت تسعى إليها شاعرة جميلة وموهوبة، فهل من يعرف الحقيقة ويلمسها يخسر دائما؟ وهل أي نهايةٍ مهما طالت، إلا وداخلها ذلك الخسران؟
فقط سيلفيا رأت وقالت ذلك في بدايات تألقّها في يوميّاتها، حتى ما أنجزته تكاد تُنكره، وكأنها كانت موهوبة ومسحورة أيضا بموهبتها، ولا تنظر إليها تلك النظرة النرجسية كما تفعل الحسان دائما، "كي تفوزي بمئة دولار من كتابة قصة ولا تصدّقي أنك من كتبها"، هل الموهبة تشبه السحر الكامن فينا، دون أن يكون هو السحر؟، وكأن الموهبة ظلال سحر فينا من أزمنة بعيدة لا نعرفها ولن نعرفها، "كي تحتقري المال، فهو هزل، مجرّد ورق، وتكرهي ما تفعلين من أجله. ومع ذلك، تتلهّفين إلى امتلاكه، لأجل أن تتحرّري من عبوديّته"، فهل تحرّرت، أم أنه بقي هناك ذلك القرار الأخير الذي سوف يحرّرها من تلك العبودية إلى الأبد، فنحبّها ونخافها أيضا؟