في عودة رفعت الأسد
لا يتسع حيز هذه السطور المتاح لسرد الاتهامات الموجّهة من محكمة فرنسية إلى رفعت الأسد (84 عاما)، وإيضاحها، وبموجبها تم الحكم عليه في الاستئناف، الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول)، بالحبس أربع سنوات، ولا للإتيان على جميع الارتكابات المفترض أنه يُلاحق بها في سويسرا وإسبانيا، ولا للتذكير بمآثره الوحشية إبّان كان من كبار النخبة العسكرية الحاكمة في سورية، مثلا ليس إلا اقتراف المجزرة المشهودة في حماه، فبراير/ شباط 1982، وهو الذي يُنسب إليه، في غضون سلطته النافذة، والحاكمة إلى حد بعيد، لمّا كان موضع ثقة شقيقه الرئيس حافظ الأسد، وولي عهده المُرتقب، قوله في مؤتمرٍ حزبي في أثناء اضطرابات صراعٍ كان مقلقا للنظام مع جماعة الإخوان المسلمين، إن "ستالين ضحّى بعشرة ملايين شخص للحفاظ على الثورة البلشفية، وعلى سورية أن تفعل الشيء نفسه للحفاظ على الثورة البعثية". وفضلا عن أن هذا المقترح مأخوذ به، منذ عشر سنوات وأزيد، فإن هذه عبارةٌ لا تؤشّر فقط إلى "روحٍ ستالينيةٍ" تقيم في جوانح قائلها، وإنما أيضا إلى تمكّن أوهام الذات المتورّمة فيه، عندما يرى ثورةً أقامها "البعث" في سورية، ما قد يعود إلى نزعةٍ ثقافيةٍ في هذا الشخص، أهّلته لأن يكون عضوا في اتحاد الكتاب والأدباء العرب (السوري)، والذي عمَد لاحقا إلى فصله، بسبب عدم دفعه رسوم الاشتراكات السنوية. وبالنظر إلى عُسر الإحاطة بمقادير انعدام الحساسية الإنسانية في رفعت الأسد هذا، يستوقف من يجول في سيرتِه (من نافل القول إنها غير عطرة) أنه إلى ارتكابه غسل الأموال والتهرّب الضريبي و .. في فرنسا، اتهمته المحكمة الفرنسية بـ"تشغيل عاملات منازل بشكل غير قانوني".
يعفو بشار الأسد عن عمّه، فيعود الأخير إلى دمشق، تلتقط حفيدة له صورةً معه، تبدو عليه علائم السرور، وصحّة جيدةٍ تستثير زوبعةً من أسئلة بشأن الأسباب التي دفعت السلطات في باريس إلى عدم حبْسه، فذريعة حالته الصحية لعدم تنفيذ السنوات الأربع سجنا (على قلّتها) لا تبدو مقنعة، ولا تقدّمه في السن، وإنْ في وُسع أهل القانون الفرنسي ممن يعرفون كيف يأخذ مجاريه في هاته المسألة أن يوضحوا أمرا مستهجنا كهذا. وثمّة السؤال عمّا إذا كان حقيقيا ما تداولته مصادر إعلامية غير قليلة، منذ أسابيع، عن "صفقة فرنسية سورية روسية .. إلخ"، أتاحت "خروجا آمنا" لمجرم الحرب الموصوف، اللص في واحدٍ من نعوته المستحقّة، و"دخولا آمنا" إلى منزله في حي المزّة في دمشق. وما إذا كانت "روح" القانون في فرنسا قد أجازت الاكتفاء بمصادرة "أصولٍ" له بقيمة 90 مليون يورو، فأوقَف هذا تنفيذَ حكم الحبس، بل وأباح له ركوب الطائرة، وإبعادَه عن الإعلام وكاميراته التي كانت قد صوّرته، في مايو/ أيار الماضي، في مبنى السفارة السورية في باريس، "ينتخب" ابن أخيه رئيسا لولايةٍ جديدة، لنقرأ تاليا، ونقلا عن صحافاتٍ فرنسيةٍ، إنه باع مقتنياتٍ وعقاراتٍ مملوكةً له في فرنسا.
كأن السلطات الفرنسية لا تجد ما يدعو إلى "إيضاح" واقعة رفعت الأسد هذه، أقلّه في مقتضاها القانوني، فلم نُصادف منها شيئا من هذا. أما السلطة الحاكمة في دمشق فأفادتنا بأن لا دور سياسيا سيكون لرفعت بعد "ترفّع" بشار الأسد عما فعله وقاله، وسمَح له بالعودة. ولم يكن متوقعا أن يصل تسامح ابن الأخ إلى منزلة أن يُجاز دورٌ سياسي للثمانيني العائد. ولكن ما هو الدور الاجتماعي الذي حُرم منه أيضا؟ وهناك السؤال عمّا إذا هو صحيحٌ ما ذاع عن "مصالحاتٍ" قد يتم إنجازها في عائلة الأسد، الذئاب الجريحة فيها والأخرى المزهوّة بذئبيتها الماثلة، وإن "دورا" ما قد يؤدّيه العم التائب، المبعد منذ 37 عاما، سيما إذا كانت أموالٌ منه قد سبقته إلى دمشق، وراحت إلى حيث يجب أن تصل، إلى جيوبِ طمّاعين في العائلة، لا يتشاطر واحدٌ لو قال إن كلمة عليا فيهم لعقيلة الرئيس، أسماء الأسد. وكلامٌ كهذا، مثل كثير يشبهه، يبقى في حيز الترجيح والمحتمل، فمغاليق العائلة هذه لا تنفتح أقفال فيها إلا إذا مارس فراس الأسد (واحد من أبناء رفعت) من مُقامه في أميركا "نشاطا" ساخطا ضد أبيه وأعمامه وأبنائهم، أو إذا جاد رامي مخلوف بطرافاته الروحيّة إياها.
يصلح رفعت الأسد بطلا في رواية جذّابة، لوفرة المثير فيها، وإن في العمر بقية بعد. ثمّة دبابات حرّكها محاولا السيطرة على دمشق مرّة. ثمّة شياطين طافت في دماغه للوثوب على رئاسة سورية، ساعة مرض الرئيس أخيه الأكبر. ثمّة زيجاتٌ كثيرات. ثمّة محكمة تتحدّث عن "غسيل أموال ضمن عصابة منظمة ..". ثمّة مليارات وعقارات وقصور و"أصول تم جمعها بالاحتيال". ثمّة سويسرا وإسبانيا وفرنسا و90 مليون يورو.. وثمّة عاملات منازل كان يشغلّهن بشكل غير قانوني.