في محاورة غانتس والجولاني
ليس خبراً أن فضائية الغد التي تبثّ من القاهرة حاورت، نهاية الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، وزير الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، في مقابلةٍ على شاشتها، ولا أن هذا أطلق فيها تهديداتٍ للشعب الفلسطيني والمقاومة. إنما الخبر أن القناة التلفزيونية المذكورة وجدت نفسها مضطرّةً لتبرير فعلتها هذه، للردّ على بيانٍ لنقابة الصحافيين الفلسطينيين، طالب إدارة القناة باعتذار صريح وعلني بعد هذه الخطوة "المشينة"، وبمحاسبة المسؤولين عنها، وضمان عدم تكرارها. قالت القناة، في بيانها الذي وصفته بأنه "توضيحي"، إن أطرافا تدأب على النيْل من استقلاليتها ومهنيّتها، وإنها حريصة على الحقوق العربية والفلسطينية. وإلى هذا الكلام الذي لا يشتريه أحد، أفاد "التوضيح" بأن مقابلتها غانتس ضمن "واجبها المهني"، للوقوف على "جميع الآراء حتى إذا كانت داخل المعسكر المعادي". وليس في الوسع هنا غير السؤال عما يقيم في مدارك من أشهروا البيان المضحك هذا، فالذي نعرفه أن الجنرال غانتس لم يمضِ حياته في إطلاق آراء، علينا الوقوف عليها، وإنما في إطلاق الصواريخ القاتلة على الفلسطينيين واللبنانيين. والقول، في مبتدئه ومنتهاه، إن الأدعى لعربٍ كثيرين يزاولون لقاء المسؤولين الإسرائيليين في شاشاتهم ومنصّاتهم وصحافاتهم أن يداروا ويصمتوا، ولا يقترفوا مثل البدعة التي سلكتها "الغد"، لمّا أذاعت بيانها المتهافت.
لا يشبه زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)، أبو محمد الجولاني، الوزير الإسرائيلي غانتس. وإذا كانت محاورة الأخير في منبر إعلامي عربي فعلا تطبيعيا مرذولا، فإن مقابلةً صحافيةً مع الجولاني لا تعدّ، بمقاييس مهنية خاصة، فعلا شائنا، وإنْ يجوز الأخذ والرد في شأنٍ كهذا. وإذا كانت نقابة الصحافيين الفلسطينيين قد بادرت إلى إشهار سخطها على الذي فعلته قناة الغد، فإن معلقين وناشطين سوريين (وغير سوريين) أشهروا سخريتهم، وشيئا من الاستهجان، بشأن لقاء الصحافي الأميركي، مارتن سميث، في إدلب، مع الجولاني، في مطلع فبراير/ شباط الحالي، سيما لأن هذا ظهر في الصورة التي جمعتهما، ونشرها سميث في "تويتر"، ببذلة، وليس بزي المحاربين الإسلاميين المعهود، ولا بالعمامة والسروال الشامي، ولا بلباس عسكري. والسؤال في محلّه ما إذا كان من الجائز مهنيا (وأخلاقيا؟) لأهل الصحافة أن يحاوروا الجولاني، ومن هم من طينته، فالرجل يتزّعم تنظيما إرهابيا، حسب تصنيفٍ صحيح، ويتبنّى العنف ضد كل مخالفيه، وأعمل في سوريين غير قليلين جرائم مشهودة. وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يحتجز لديه قيد الاعتقال، أو الاختفاء القسري، 2116 شخصا. وليس هذا النقاش جديدا، وإنما يسبق ظهور أبو محمد الجولاني مع تيسير علوني على شاشة "الجزيرة" في ديسمبر/ كانون الأول 2013، إلى محاورات صحافيين عرب وأجانب مع أسامة بن لادن، وإذاعة أشرطته.
القول هنا إن التطبيع مع المحتلين الإسرائيليين، بمختلف أصنافه، ومنها الإعلامي، مرفوض ومستنكر، فيما محاورة الجولاني وأضرابه، في سورية وغيرها، من أبغض الحلال. ومهارة الإعلامي في أمرٍ كهذا ستتعلق بإدراكه الخطوط التي تُمايز بين الترويج والمساءلة، بين إفادة الإعلامي من الجولاني والعكس، فالمعيار هنا سيتعلّق بالأسئلة التي تُوجّه إلى هذا الرجل، وغيره من أهل مذهبه في الإرهاب والتطرّف، أي بمجادلته، وتظهير سوءات ما يقترف ويفعل. وإذا رأى من رأى أن في هذا كله، أيا كانت السويّة المهنية للصحافي المحاور، شيئا من التسويق والترويج (والتلميع، بحسب بعضهم)، فيحسُن أن يُستقبل هذا المنطق بغير تشنّج أو مكابرة، بل باهتمام، لما فيه من مساحات الوجاهة أحيانا.
معلومٌ أن وزارة الخارجية الأميركية كانت قد أعلنت عن مكافأة عشرة ملايين دولار، في مقابل أي معلوماتٍ تؤدّي إلى تحديد هوية الجولاني أو مكانه. ومن الطريف إنها عقّبت على صورته مع مارتن سميث ساخرةً من وسامته، وأكّدت أن بدلته "الجميلة" لن تغيّر صفته إرهابيا، وذكّرت بالمكافأة المجزية. .. لم يكترث الصحافي الأميركي، السبعيني، المعروف بنتاجاته الوثائقية عن سورية (وغيرها) بالملايين العشرة، وإنما بإنجاز مادةٍ إعلاميةٍ وثائقيةٍ يضيفها إلى أرشيفه المهني. أما الصحافي العربي الذي التقى على شاشة قناة الغد وزير الحرب الإسرائيلي، فسجّل على نفسه شائنة.