في مصير القاعدة بعد الظواهري
لاقى خبر انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان العام الماضي انتقادات كثيرة في العالم، ومن المنتقدين كثيرون ممن لاموا التدخل الأميركي ذاته، ثم اعتُبر الانسحاب قراراً بترك أفغانستان بين يدي حركة طالبان، وقد حصل ذلك بالفعل، فلم يكد ينتهي أسبوع واحد حتى تداعى النظام الذي أقامه الأميركيون في أفغانستان، وتقدّمت الحركة التي كانت تعتبرها أميركا متطرّفة، ووصلت إلى العاصمة كابول، وسيطرت على كلّ شيء، وكأنّ عقارب الساعة عادت إلى الوراء عشرين سنة!
تندرج هذه القصة تحت عناوين سياسية أميركية خالصة، تعتمد على مصالحها بشكل أساسي واعتباراتها الانتخابية أيضاً، فلم يعد هناك أي مردود سياسي لأميركا من بقاء قواتها في أفغانستان، وقد أدركت أنّ إقامة نظام عميل بشكل كامل من دون وجود قواتها هناك أمر مستحيل، ففضلت أن تسلم الأمر للنظام المتطرّف الذي جاءت أصلاً لاستئصاله، وهي تظن أنّها روّضته قليلاً، وأصبح ميدان فاعليته محدوداً، خصوصاً بعدما تخلّصت من العقل المفكر وقائد الميدان المؤثر، أسامة بن لادن، وبقيت من التنظيم السابق أطلال ذكريات متطرّفة لم تعد أميركا ترى أنها تشكل خطراً كبيراً. من ضمن ذلك الإرث المتروك، بقي طبيبٌ سابق، يغلب عليه مظهر الدراويش، حمل تراث بن لادن، من دون أن يرث الكاريزما اللازمة، لكنّ اسمه كان كافياً ليضخ بعض الوقود في شريان تنظيم القاعدة المتهاوي، إلى أن تمكّن أحد صواريخ جو بايدن من اقتناص هذا الصيد المعنوي، واستطاع قتله في وسط كابول، ما أودى بالرجل، وربما بما تبقى من تنظيم القاعدة كله.
افتقد التنظيم قوة التماسك المطلوب بعد رحيل بن لادن، رغم بقاء مجموعات متفرّقة كثيرة في شتى بقاع العالم على ولائها الاسمي أو الفعلي، لكن الضربة "الشرعية" التي تلقّاها التنظيم هي طغيان تنظيم آخر يُدعى الدولة الإسلامية، خرج من تحت عباءة "القاعدة" ليتوسع ويغطي، في فترة محددة، معظم حوض الفرات من الرقة في أقصى الشمال السوري وحتى تخوم بغداد، فشكل ما عرف لبعض الوقت بدولة الخلافة، وكان على تنظيم القاعدة أن يوجهها أيديولوجيا وعسكريا أيضا، فخاضت المجموعتان معارك عقائدية وحربية في العراق وسورية على وجه الخصوص، ولم يمنح ضمور تنظيم الدولة الإسلامية وتقلصه تحت تأثير الضربات الأميركية، أي أفضلية لتنظيم القاعدة، فزاد انحساره، وتركّز في بقع جغرافية متباعدة يغلب على معظمها الولاء الفلكلوري. ومع فقدان الظواهري نفسه المرجعية المفترض أن يتمتع بها قائد تنظيم دولي، يصبح مع مقتله الطريق مفتوحا لصراع بين القادة المحتملين، وهو أمرٌ متوقع في مثل هذه التنظيمات، ما سيجعل تراخي الولاء للقيادة المركزية أكبر، خصوصا أن كثيرين من هؤلاء القادة المحتملين متخفين يخشون الظهور العلني، ويصعب وصولهم إلى أماكن بعيدة عن مواقعهم، لكثافة الملاحقة والخوف من الاغتيال، وبعضهم في حكم المقبوض عليه، ولعلّ أبرزهم سيف العدل المصري ويرجّح وجوده في إيران.
رغم أنّ رعيل قادة التطرّف قد رحلوا على التوالي، من بن لادن إلى الظواهري مروراً بأبو بكر البغدادي، وانحسر دور التنظيمات الكبيرة ذات العلاقات المعقدة التي تشبه تعقيد تشكُّل الدول، فإنّ الأيديولوجيا باقية، ولن تتوقف عن التعبير عن نفسها بقوة، وما زالت تجد آذاناً صاغية، وربما ترقباً في بعض الأماكن، وقد يكون ما عايشته الثورة السورية خلال أعوامها العشرة مثالاً على ذلك، فقد أوجدت أماكن فوضى عارمة، ما ساعد على تغلغل التطرّف، فقوي وفرض سطوته على المكان بما فيه، لخلوّ المنافس الأيديولوجي الذي يؤمّن نظرية اجتماعية مقبولة بديلة. وغياب رموز القاعدة اليوم قد يطوي صفحتها نهائياً، لكن يمكن أن يكون بداية لصفحات أخرى، تشابهها في الفكر والمنحى والسلوك مع تغير في الأسلوب والمظهر.