في معرفة يون فوسيه بعد جائزة نوبل
ترمي الأكاديمية السويدية في إعلاناتها عن الفائزين بجوائز نوبل للآداب سنويا لمحاتٍ شديدة الإيجاز عن أدب الفائزين، تبدو تسويغا منها لتكريمهم. يقع هذا الإيجاز، أحيانا، على بعض الجوهريّ في منتوج الأديب المتوّج، وفي أحيانٍ يبدو عموميا واستعاريا، غير دالٍّ ولا كاشفا عن شيءٍ عميقٍ ومركزيٍّ في هذا المنتوج. والراجح أن الأكاديمية العتيدة، أمس الخميس، فعلت شيئا من هذا الثاني، لمّا قالت إنها اختارت النرويجي يون فوسيه "لمسرحياته المبتكرة ونثره الذي يعطي صوتا لمن لا صوتَ له"، فهذا كلامٌ لا يتفرّد به الفائز الجديد (64 عاما)، فأعمال كثيرين غيره كانت مبتكرَة، وأعطوا صوتا لمن لا صوتَ له. وعندما أثنت على "كشفه عن القلق الإنساني والتناقض في الجوهر البشري" لم تميّز المسرحي والروائي والشاعر (غزير الإنتاج منذ روايته الأولى في 1983) عن كل كتّاب الأدب ذوي الجدارة، فالقلق الإنساني محوريٌّ، وحضوره شاسعٌ، في مجرى الأدب كله، وكذا التناقض المؤشَّر إليه. أما قول الأكاديمية السويدية إن أعمال فوسيه تمزج بين طبيعة خلفيّته النرويجية مع التقنية الفنية الأدبية، فلا يبدو مفهوما بدرجةٍ كافية، وبالتالي قد لا يصير مُقنعا. ومعلومٌ أن أمزجة أعضاء الأكاديمية الـ18 وذائقاتهم (هل يجوز هذا الجمع؟) تتحكّم بمنح هذا الكاتب (أو الكاتبة) الجائزة أو إبعادها عنه (عنها)، ثم له أن يفعل، من يرغب أن يخوض في أمر الاسم المُعلن له، وفي انحيازات هؤلاء الأعضاء إلى جغرافياتٍ وثقافاتٍ معيّنة، أو في تنويعاتٍ يحدُث أن يخترقوا فيها الذائع عن انحيازاتِهم، أو في مفاجآتهم، المتعمّدة ربما أحيانا، عندما يمنحون الجائزة لأديبٍ لم يتناثر اسمُه بين متوقَّعين أو متداوَلين أو مرجَّحين. والذي فعلته هذا العام أنها كرّمت كاتبا يُقْرأ اسمُه منذ سنواتٍ بين المرجّح فوزُهم، وصودف أخيرا بين المتوقّع أن ينالها أحدُهم.
مرّ الأسبوع الحالي اليوم العالمي للترجمة، فخيض في حال الترجمة إلى العربية ومنها، وفيه أن المجهود في هذا كله حسنٌ إلى حدّ ليس قليلا، غير أن أدوارا لمؤسّساتٍ وأكاديمياتٍ عربيةٍ ما زالت ناقصة. وقد تساءل صاحب هذه الكلمات، لمّا استحقّ (هناك من لم يستحقّها) التنزاني، يمني الأرومة، عبد الرزاق قرنح، جائزة نوبل قبل عامين، عن أسباب عدم ترجمة أيٍّ من أعمال هذا الكاتب، المشغولة بالغربة والهجرة والهوية، والأبطال في غالبيّتها مسلمون وعرب. وتساءَلتُ، لاحقا في يوليو/ تموز الماضي، لمّا توفّي ميلان كونديرا، عن بواعث ترجمة كل أعماله (تقريبا). وليس المقام هنا للاجتهاد في أي إجابة، غير أن استقبال مثقّفين عرب، على كفاءةٍ مشهودةٍ في المتابعة والقراءة والاطلاع، نيْل يون فوسيه "نوبل للآداب"، بترحيبٍ يسوّغ استحقاقه لها، يدفع إلى السؤال عن سبب قلّة الترجمات إلى العربية من أدب هذا الرجل، وهي روايتان ومسرحية من بين ما صرنا نعرف أن له نحو 40 عملا، بين شعرٍ ومسرحٍ ورواية. ولا أبادر هنا إلى إجازة استحقاقِه الجائزة، وقد تلقّى خبر منحها له في مكالمةٍ هاتفية وهو يقود سيّارته في بلده، لمجرّد قراءتي روايته القصيرة "صباح ومساء"، الكثيفة جدا، وفائضة البساطة، (ترجمتها عن النرويجية شيرين عبد الوهاب وأمل رواش، دار الكرمة، القاهرة، 2018)، وليست لديّ الأهليّة لانتزاع استحقاقِه الجائزة منه إذا ما قلتُ إنها روايةُ رائقةٌ وحسنةٌ وحسب، غير أنها لا تذهبُ بصاحبها إلى جائزة نوبل.
يخصّ السرد في "صباح ومساء" مولد بطلِها في فصلٍ أول، يوم خرج إلى الدنيا وغبطة أبيه الصباد وأمّه به، ويخصّ وفاتَه في فصلٍ ثانٍ أخير، عندما يروي هو نفسُه، ويتداخل حاضرٌ بماض يتذكّره، لمّا غرق مرّة، ولمّا كان يصيد مع صديقه، ولمّا تعرّف إلى فتاة جميلة، ولمّا... إلخ. تنتهي الرواية بوفاته، وهو الذي صار عجوزا أرمل، وأبا لسبعة أبناء، بينهم ابنتُه الصغرى التي تأتي إلى المنزل لحظة وفاته، اللحظة التي تبدو ملتبسةُ، كأنها متحقّقة وغير متحققة في آن، في روايةٍ معنيةٍ بجريان الزمن في جوّانيات شخصٍ أمضى حياته صيادا، وفي إعالة أبنائه، وأحبّ الحياة وأصدقاءه. هذه هي الحدّوتة التي لا نعلم لها زمنا، ونقع فيها على فضاءات بلدتيْن أو أكثر (في النرويج ربما). أتقنت المترجمتان بثّ حرارة الحكي المتناوِب من أكثر من شخصيّة، مع تداخل أزمنةٍ والتباس ذكرياتٍ تتوالى بدفءٍ منها.
سنقرأ رواية فوسيه الأخرى "ثلاثية"، المترجمة إلى العربية (المترجمتان نفسهما والدار نفسها)، وكذا مسرحيته "الكلاب الميّتة" (سلسلة المسرح العالمي، الكويت، ترجمة محمد حبيب، نوفمبر/ تشرين الثاني 2021)، قد نراه فيهما "أعطى أصواتا لمن لا أصوات لهم"... ربما.