في هجرة الشباب الموريتاني إلى أميركا
يصل عدد الموريتانيين المقيمين في الولايات المتحدة إلى عشرة آلاف يتوزّعون على امتداد الجغرافيا الأميركية، مع تركز في بعض المدن كنيويورك، وكنتاكي. وقد مرّت الهجرة الموريتانية بعدة مراحل، كما تعدّدت مساراتها. فكانت، في البداية، تقتصر على البلدان الأفريقية، وخصوصا المجاورة، كالسنغال ومالي والمغرب، وبعض الدول الأوربية كفرنسا وإسبانيا وألمانيا وبلجيكا. أما الهجرة البعيدة فكانت شبه محصورة في بلاد الحرمين (مكّة المكرّمة والمدينة المنورة) حيث يأتي الناس للحج وقد يستقر بهم المقام، أو في طريق الذهاب إليها أو العودة منها.
وكانت الهجرة في البداية تتم عن طريق طلب التأشيرة بشكل رسمي من سفارة الولايات المتحدة والحصول عليها مباشرة أو من خلال مكاتب خدمة خاصة مقابل 30 ألف دولار. ومع تكرار حالات الرفض بسبب أو بدونه، لم يعد أمام المرشّحين إلا طريق الهجرة السرّية التي تمر حتما بإسبانيا ثم بإحدى دول أميركا الجنوبية، حيث الحصول على تأشيرة الدخول في المطار والتوجّه من ثم شمالا نحو حدود الولايات المتحدة مع المكسيك حيث اجتياز الجدار الحدودي الشهير. ويتجشم شباب موريتانيون عناء هذه الرحلة الشاقة مادّيا وبدنيا، حيث تبلغ المسافة 20 ألف كلم من شتى أنواع التضاريس الوعرة في متاهات الصحراء وأدغال الغابات، كالجبال والوديان والوهاد. وتكلف في المتوسط نحو سبعة آلاف دولار. كما أنها لا تخلو من مخاطر السقوط في قبضة شبكات التهريب ومافيا المخدّرات الدولية. ومع تطوّر وسائل النقل والعولمة وتقارب المسافات الطبيعية والفكرية، بدأ الشباب يتطلع إلى آفاق جديدة يستطيع فيها الحصول على مكتسباتٍ مادّية سريعة تساعد في مواجهة تحدّيات الحياة كالزواج وتربية الأطفال وتعليمهم.
هناك أكثر من سبب للهجرة إلى أميركا المعروفة بتطور مستوى التعليم واستقرار النظام السياسي وقوة الاقتصاد وضمان الحريات الفردية. ولعل السبب الاخير هو ما دفع الشباب الموريتاني إلى ركوب المخاطر والالتحاق بالمهاجرين هناك. ولا يمكن إغفال انتشار الفساد والإثراء السريع والرأسمالية المتوحّشة التي تؤدّي إلى زيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء والضغط عليهم لمواجهة تكاليف الحياة الكريمة الباهظة كالتعليم والصحة والسكن.
ظلّت الهجرة الموريتانية إلى أميركا في البداية محصورة في الرجال والبالغين، ولكنها بدأت تتّسع شيئا فشيئا، لتشمل النساء والقصّر
وقد ظلّت الهجرة الموريتانية إلى أميركا في البداية محصورة في الرجال والبالغين، ولكنها بدأت تتّسع شيئا فشيئا، لتشمل النساء والقصّر. كما أنها شملت موظفين في الدولة وفي القطاع الخاص، إضافة إلى عاطلين عن العمل. ومهما كان المستوى الثقافي العلمي للمهاجر الموريتاني، فالمفتوح أمامه هناك من الفرص يبقى محصورا في العمل في المطاعم أو في محلات التجزئة أو محطّات توزيع البنزين ريثما يحصل على إذن العمل الذي يقوده، في أحسن الحالات، إلى العمل سائق سيارة نقل أو شاحنة. وهناك من لهم تخصّصات، ولكن حاجز اللغة أولا ومستوى التأهيل ثانيا يحولان بينهم وبين الاندماج في سوق العمل الأميركي التنافسي قبل الالتحاق بدورات تدريبية في اللغة الانكليزية ومجال الاختصاص. وقلة من هؤلاء يعملون في مجالات اختصاصهم، أطباء أو مهندسين أو مدرّسين أو باحثين في مؤسّسات مرموقة. كان المهاجرون من كبار السن ومن العلماء بالشرع، أما اليوم فيهاجر الشباب الذين لم يجدوا فرصة عمل في دولتهم ذات الإمكانات الاقتصادية الهائلة من شواطئ على المحيط الأطلسي او نهر السنغال والمعادن والطاقة. ولعل أكبر عدد من المهاجرين من حاملي الجنسية الموريتانية قد وصل إلى أميركا بعد أحداث العام 1989 العرقية، حيث منحت أميركا اللجوء السياسي لثلاثة آلاف منهم، وتمركزوا في أوهايو حيث استفادوا من برنامج للحماية.
ولعل تقدّم خمسين ألف شاب لشغل مائتي مقعد في مختلف تخصّصات المدرسة الوطنية للإدارة، أخيرا، ونسبة النجاح نحو 10% في شهادة البكالوريا في السنوات الماضية، أمران يبينان جزءا من التحدّيات التي تواجه الشباب في البلد، وإنْ تذكُر الأرقام الرسمية 11% نسبة بطالة، إلا أن مصادر أخرى اكُثر استقلالا تفيد بأن النسبة أكبر من ذلك بكثير، حيث تصل إلى نحو 30%.
لا تشجّع الدولة الهجرة غير النظامية بحكم التزاماتها الدولية والأخلاقية، فهي تشجّع الاستثمار الأجنبي في ظل اكتشاف الغاز وتوسع نشاط الصيد
هناك جوانب إيجابية للهجرة على مستوى الفرد والمجموعة والدولة، كتحسين مستوى الحياة وتحويل العملة الصعبة، ولكن هناك سلبيات لا تخطئها العين، كالانبتات التدريجي عن المحيط الاجتماعي والثقافي، وصعوبة إعادة الاندماج فيه وإفراغ الاقتصاد الوطني من يد عاملة شابة. ومن المخاطر المحتملة لهذه الهجرة تعرّض أصحابها للالتحاق بشبكات التهريب ومافيات غسل الأموال، وربما شبكات الإرهاب الدولي، والتي لم تعد تعرف الحدود، وتنشط بشكل كبير في المحيط الإقليمي لموريتانيا جنوبا وشرقا وشمالا. كما أنها قد تؤدّي إلى اختلال في التركيبة الديمغرافية للبلد، إذا علمنا أن الغالبية العظمى من المهاجرين تنتمي إلى فئة الناطقين بالعربية، بالتزامن مع هجرة مستمرّة ومتزايدة إلى موريتانيا، ينتمي معظم أهلها إلى الدول الأفريقية، وخصوصا دول الساحل، مع تطوّر التعدين التقليدي وبدء استغلال الغاز في بداية السنة المقبلة 2024، مع ان موريتانيا تعدّ دولة ممر للمهاجرين المتوجهين إلى أوروبا.
لا تشجّع الدولة الهجرة غير النظامية بحكم التزاماتها الدولية والأخلاقية، فهي تشجّع الاستثمار الأجنبي في ظل اكتشاف الغاز وتوسع نشاط الصيد، إضافة إلى إجراءات تنظيمية الأخرى، كمنع بعض الوظائف على غير المواطنين كممارسة نشاط النقل الحضري. وهناك مبادرة مكافحة الهجرة السلبية، وقد ظهرت في سنة 2022 من أشخاص موجودين أساسا في المهجر (أميركا وكندا)، وتهدف إلى دعم المهاجرين وتعريفهم بحقوقهم والتعاون مع المنظمّات غير الحكومية الوطنية والدولية لجل مشكلات هؤلاء في بلدان العبور أو الإقامة، وخصوصا في البلدان التي لا توجد فيها تمثيليات دبلوماسية موريتانية.
لا يبدو أن جهود الدولة لمواجهة هذا التحدّي ستعطي أكلها ما لم تندرج في إطار استراتيجية متكاملة لمعالجة مشكلات بطالة الشباب، تبدأ بمحاربة الفساد وتشجيع الشفافية في التعيينات ومنح الصفقات العمومية، وتوسيع مجالات التعليم الفني والمهني المرتبط باحتياجات سوق العمل، ولا تنتهي بتطوير الشراكة بين القطاعين العام والخاص، من خلال تشجيع ريادة الأعمال ودعم المشاريع الصغيرة والمتوسّطة التي تشكل أهم مصدر للتشغيل في الدول المتقدّمة. وكذلك القيام بمشاريع بنية تحتية مؤسّسة ذات حاجة لليد العاملة الكثيفة، كالطرق والمطارات والموانئ والمستشفيات والمدارس والجامعات والمصانع.