في وداع فيصل حوراني
هذه واحدة من المرّات المتباعدة التي أرثي فيها عزيزاً أو صديقاً ترجّل عن صهوة الحياة من دون استئذان، ليس لقلة أسى أو ضئيل التياع، وإنما لحسٍّ عميقٍ بفداحة الخسارة أو ربما لانعقاد اللسان، فما بالك إذا كان الراحل صديقاً حميماً، مثل فيصل حوراني، الرجل الذي لم تنقطع صلتي به منذ ما يزيد عن أربعين سنة، عندما التقيته في مكتب منظمة التحرير في دمشق أول مرة، وأخذني إلى تناول الغداء في منزله، في تعبير أوليّ عن ألفةٍ تكوّنت بين اثنين تعرّفا إلى بعضهما للتوّ، لتمتدّ بعد ذلك أواصر فكرية ومودّة شخصية دافئة، ظلت تنمو وتتوسع، رغم تعدّد ديار المنفى لكلينا، وطول البعاد بيننا في أغلب الأحيان.
تهرّبت أول الأمر مما يقتضيه واجب تقديم التعزية للنفس قبل تزجيتها للغير، وبرّرت ذلك بضرورة الإضاءة على استشهاد شيرين أبو عاقلة، المتزامن مع رحيل فيصل، إلا أن الشعور العميق بوطأة الفقد أمسك بي من جديد، وأملى عليّ التوقف عن التفلّت من قول شيء، ولو قليل، عن كثير فيصل الوفير، متسائلاً، قبل الانصياع لنداء عالمي الداخلي، ما الذي تتّسع له مساحة هذه الزاوية، وفي الجعبة ما يفيض عن صفحة كاملة على أقل تقدير؟ وكيف لي أن أتجنب الحديث عن نفسي، كما يفعل بعضهم في مناسبةٍ كهذه، فيما الموقف في مقامه الأول استعادة وبوح لواعج، وفتح صفحة محض شخصية؟
كنت على درايةٍ بما كان يعانيه فيصل من أوجاع تكاثرت على بدنه في السنوات الأخيرة، إلا أن خبر وفاته كان ثقيلاً على النفس، لا سيما أن النعي وصل إليّ بعد منتصف ذلك اليوم الطافح بالغياب، الأمر الذي ضاعف من ألم الفقد، وأثار لدي رغبة جامحة في التحدث إلى أي أحد من أصدقائنا المشتركين، وقلتُ في نفسي من ذا الذي سأعثر عليه في هذا الوقت المتأخر سوى صديقنا رئيس مركز الأبحاث الفلسطيني الأسبق في زمن بيروت صبري جريس، لأتبادل وإياه الشجون، خصوصا أنني أنا من كنتُ قد قدّمتُ له فيصل الذي عمل في المركز فيما بعد، وأسس لنفسه مداراً مهماً من مدارات حياته متعدّدة المدارات، تلك التي سبقت مرحلته المديدة في فيينا.
هاتفتُ صبري، المقيم في أعالي الجليل، المنهمك في كتابة مذكّراته باللغة العبرية أغلب الوقت، ودار بيننا حديثٌ طويلٌ دام ساعة وأزيد، استذكرنا فيها فيصل، وعرّجنا على مسائل أخرى، ثم طلبت منه رقم هاتف ابنة الراحل لمى، المقيمة في رام الله، فقال إنه سيأخذه من ابنته فدى، وهي بالمناسبة روائية صاعدةٌ بجدارة، وذلك عندما سيقابلها غداً في القدس، يوم تشييع جنازة شيرين أبو عاقلة في كنيسة الروم الكاثوليك. وبالفعل حصلتُ على غايتي من وسط الزحام، وهاتفت لمى التي بادرتني قائلة إنه كان عليها هي أن تتصل بي معزّية، لمعرفتها المسبقة بمدى معزّة أبيها، ورفعة منزلته لدي.
في أواخر السبعينيات، عشتُ نحو عامين في دمشق، توثّقت فيهما علاقتي بفيصل، الذي كانت له صداقاتٌ واسعةٌ مع مختلف الأوساط السياسية والفنية والصحافية في العاصمة السورية، الأمر الذي أتاح لي التعرّف على عدد كبير من الكتاب والمثقفين اللامعين فيها، وحين قفلتُ عائداً إلى بيروت في عزّ الحرب الأهلية، كان بيتي المتواضع منزلاً لفيصل كلما حطّ ركابه في العاصمة اللبنانية، وكان بيته في المقابل نُزلي الوحيد كلما يمّمت وجهي شرقاً وقضيت ليلتي في الشام، وعندما استقريتُ في عمّان أوائل الثمانينيات، كان الصديق العتيق يهاتفني من المطار، لدى وصوله من فيينا، ومكوثه بعض الوقت بيننا، في طريقه إلى رام الله، كما كان يفعل الشيء ذاته، فور عبوره الجسر، عائداً إلى منفاه الأوروبي؟
إذا وضعنا الحديث عن فيصل المفكّر الكاتب الروائي المؤرخ جانباً، وقد غطّى هذا الواجب أصدقاء ونقّاد مُجلون، تبقى إشكالية أن المقام لا يتسع لاسترجاع فيضٍ هائلٍ من الذكريات الشخصية مع فيصل الإنسان الصادق الصدوق الوفي، صاحب الشخصية الآسرة واللسان الذرب والحضور القوي أينما حلّ، الرجل المبدئي ذي الضمير اليقظ على طول الخط المستقيم، السياسي غير المجامل ولا المساوم إزاء كل ما كان يعتقد أنه الصواب، التقدمي بكل ما في هذه المفردة من سلوكٍ اجتماعي وتصرّف سياسي وتفكير نقدي عميق، الهازئ بالتابوهات والمسلّمات والخطوط الحمراء، الفتى العصامي اليتيم الفقير الذي صنع نفسَه من العدم، الشاب الساخر المعتز بفصله من حزب البعث لأنه صافح محمود درويش.