قبل أزمة أوكرانيا وبعدها
ثمّة قاسم مشترك بين معظم الدول العربية في ما يتصل بمواقفها إزاء الحرب الدائرة الآن في أوكرانيا، وهو التأخر في إعلان الموقف، أو مباشرة ردّ الفعل. ويصعُب استثناء أيٍّ من الدول العربية من هذا البطء والتردّد الذي كان ملموساً من بدايات الأزمة، على الرغم من أن بوادرها ظهرت قبل التحرّك العسكري الروسي ضد أوكرانيا بعدة أسابيع. ثم تجسّدت الحيرة العربية أو ربما التردّد بين أحد الطرفين، في محطّاتٍ مهمةٍ خلال الأزمة. كان أبرزها التصويت في مجلس الأمن على إدانة العملية العسكرية الروسية. صحيحٌ أن الإدانة كانت مستبعدةً مسبقاً بسبب الفيتو الروسي، بل إن مشروع القرار الذي أعدّته بريطانيا في ذلك الوقت كان مصيره معلوماً مسبقاً. لذلك، تجنّبت دولٌ كثيرة اتخاذ موقف واضح إزاءه، غير أن بعض المواقف اختلفت عند التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، فبعض الدول التي امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن، وتجنّبت إدانة روسيا، بادرت إلى إدانتها في الجمعية العامة.
ثم تكرّرت مسألة التردّد ورمادية المواقف، عندما تحوّلت الأزمة إلى عملية عسكرية، ثم انقلبت سريعاً إلى مواجهة مفتوحة تستخدم فيها كل الأدوات والأساليب، من العقوبات الاقتصادية إلى الضغوط النفسية والدعائية إلى التحالفات والتربيطات الشبيهة بالحملات الانتخابية في بلداننا الفقيرة في الديمقراطية. وبنظرة عامة على مواقف الدول العربية أو أغلبها، تجاه الأزمة، يمكن بسهولة ملاحظة أنها تراوح بين مواقف متقلبة غير مستقرّة وفاقدة للرؤية والبوصلة الواضحة، حتى وإن كانت براغماتية مصلحية. ومواقف أخرى تجسّد محاولات حثيثة للحياد والموازنة بين طرفي نقيض، وهو المستحيل بعينه، خصوصاً بعد أن دخلت الأزمة في نفق المباريات الصفرية، وصارت مدعاة إلى الفرز والاستقطاب من طرفيها الرئيسين (واشنطن وموسكو)، قبل أن تنخرط معها قسراً كلٌّ من الصين وأوروبا، ولكليهما ارتباطاتٌ عضوية ووثيقة مع الدول العربية والشرق أوسطية.
معلومٌ بالضرورة أن اتخاذ قرار مع أي طرفٍ أو ضده في أزماتٍ كهذه أشبه بالمشي على الصراط، حيث لا خيار واحداً آمناً أو مضمون النتائج، فلكل قرارٍ كلفة وثمن. لكن هذه هي السياسة، تتطلّب حسّاً استشرافياً وشخصية قيادية تملك المخاطرة عند مفترق الطرق، كما تملك الشجاعة اللازمة لتحمّل مسؤولية النتائج أياً كانت. لكن في كل الأحوال يظل العقل حاضراً دائماً، والمهارات الربانية لا تحل محل العقل والتفكير والتخطيط. لذا، المعضلة العربية الدائمة أمام الأزمات والأحداث الكبيرة هي عدم الاستعداد المسبق لمثل هذه الأزمات، حتى بعد ظهور بوادرها. ولمّا كانت التحرّشات الغربية بروسيا مستمرّة منذ عدة سنوات، كما أن الدبّ الروسي بدأ يكشّر عن أنيابه أيضاً اعتراضاً على ذلك الزحف الغربي تجاهه منذ فترة ليست قصيرة، إلا أن الدول العربية لم تستعد مسبقاً، ليس لتلك البوادر، بل لما بعدها، لا داخلياً، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، ولا خارجياً بوضع المسارات وتحديد بدائل وتحالفات وصفقات يمكن إبرامها عند الضرورة. وللأسف، تظنّ بعض الحكومات أن "اللاموقف" هو الموقف الأفضل والمثالي للمرور من الأزمة بسلام ومن دون خسائر.
في كل الدول العربية دوائر معنية بالسيناريوهات المحتملة والأزمات الكامنة وغيرها من توقعات المستقبل. وفي الواقع، ليس من الواضح إذا كانت المعضلة في قصور الإدراك وضعف الحس التنبؤي داخل تلك الدوائر، أو في تجاهل متّخذي القرار أعمالها ومخرجاتها. والأكثر مدعاةً للتساؤل، أن أزماتٍ واختباراتٍ كثيرة مرّت بها السياسات العربية، تتشابه في تطوراتها وكذلك في نتائجها. وعلى الرغم من ذلك، لا أحد يتعلم من الماضي، بل نعيد تكراره بمزيد من الأخطاء.