قتلة العالم إذ يعبدون خطيئتهم
يتندرون على انتفاضة الطلاب في الجامعات الأميركية، دفاعاً عن حقّ الإنسان الفلسطيني بمواجهةِ جرائم الاحتلال الصهيوني، باستدعاءِ النموذج العربي في قمعِ الثورات والانتفاضات الشعبية، وخصوصًا تراجيديا قمع ثورة الشعب المصري في العام 2011، إذ تبدو منهجية القمع البوليسي للتظاهرات الطلابية المتصاعدة في الجامعات بالولايات المختلفة، منقولة حرفيًا من أرشيف التعاطي الأمني الغشيم في العواصم العربية.
ثورة طلاب أميركا، التي تتزايدْ احتمالات تمدّدها عالميّاً، بدأت بشرارة مصرية أصيلة أشعلتها رئيس جامعة كولومبيا، نعمت شفيق، مصريّة الأصل، والتي قرّرت استعمال أسلوب "الضرب في سويداء القلب"، والتعبير منقولٌ من تراث الأداء الأمني المصري، في معالجتها أنشطةِ الطلاب الاحتجاجية ضدَّ ممارسات الاحتلال الصهيوني في غزّة، والتي مثلت جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي حيال الشعب الفلسطيني. اختارت نعمت شفيق التعاطي الأمني الخشن مع التظاهرات، فكانت عمليات الاعتقال والفصل من الدراسة بحقِّ طلاب عديدين، فكانت، من حيث لا تدري، أو تقصد، وراء تفجير ثورة تتوّسع في مختلفِ الجامعات الآن، تمامًا كما كان المخبر الذي عذَّب المواطن السكندري الشاب، خالد سعيد، حتى الموت، مُفجِّرّاً احتجاجاتٍ بدأت شبابية ثم تطوّرت إلى شعبية، آخذة في التصاعد حتى صارت ثورة أطاحت رأس النظام، الذي قابلها بكلِّ أشكالِ القمع والبطش التي تنتمي إلى أحطِّ مراحل الاستبداد، إذ حضرت الهراوة بدلًا من الحوار، واستدعيت فرق الضرب والسحل المحمولة فوق ظهور الخيل والإبل.
هذه المشاهد التي عاينها المصريون، والسوريون، واليمنيون، والليبيون، والسودانيون، قبل عشر سنوات، أو أزيد، تظهر في الجامعات الأميركية من نيويورك إلى بوسطن وتكساس الآن، مع تلك المعالجات العنيفة التي تستخدمها قوات الشرطة، ويحرّض عليها، ويطالب بمزيد منها مسؤولون ورؤساء جامعات، تبيّن أنّهم مقاتلون مكارثيون أوفياء في دعمهم الصهيونية، في طورها العنصري الوقح، على نحو ما فعل حاكم تكساس الذي أعلن الحرب على الطلاب، وحاصر جامعتهم بالقوات المدجّجة بالسلاح، واعتقل العشرات منهم بالقوّة، معتبرًا أنّ الطلاب يستحقون السجن.
في جامعة كولومبيا بنيويورك، ذهب رئيس مجلس النواب الأميركي، مايك جونسون، متوّعدًا بمزيدٍ من القمع، ومطالبًا رئيس الجامعة بالاستقالة إن لم تتمكن من فضِّ اعتصام الطلاب، الذين أمهلهم ساعات لإنهاء احتجاجهم قبل فضِّ الاعتصام بالقوة، كلّ ذلك يدور تحت الشعار الكاذب "معاداة السامية"، وهو شعار غارق في بطلانه، إذ لم يصدر عن المتظاهرين أيّة هتافات، أو شعارات، تحمل شبهة عداء أو كراهية على أساس الدين أو العرق، بل إنّ طلابًا وأساتذة كثيرين من اليهود مشاركون في الاعتصام ضدَّ الفاشية الصهيونية.
مسألة إشهار تهمة معاداة السامية بوجه كلِّ من يندّد بجرائم الكيان الصهيوني ويطالب بإنهاء الاحتلال ويهتف بالحرية لفلسطين، صارت نكتةً شديدةَ السماجة يطلقها قتلة ومصاصو دماء، ليسوا فقط معادين للسامية، بل معادين للإنسانية بإطلاق، ورعاة لجريمة تأسيسية قامت عليها كلُّ كوارث العالم على مدى قرن من الزمان، منذ تلك الخطيئة بحق التاريخ، والتي تمثلت في إنشاء كيان غير شرعي فوق عظامِ شعبٍ متأصّل الجذور على أرضه. ومع الوقت، أضفى الرعاة المؤسّسون قداسة على خطيئتهم، وراحوا يعبدونها ويحاولون إكراه العالم كلّه على عبادتها وتقديسها، واستخدموا كلّ أنواع القوة الباطشة لتثبيت هذه القداسة في وعي الأجيال.
والحاصل في جامعات أميركا والعالم، وفي الشوارع والميادين، أنّ قشرة ذلك الوعي الفاسد المزروع، عنوًة وقهرًا، في ذاكرةِ التاريخ تحطّمت، وأخذت في السقوط، ليسترد الضمير الإنساني الوعي الصحيح بالصراع وأصل المأساة الفلسطينية، فتأتي أجيالٌ جديدة بعد أكثر من مائة عام على ولادة الخطيئة المقدّسة وتزيح هذا الغبار المتراكم فوق وعيها، وترى القضية في حقيقتها وجوهرها، وترفع صوتها انحيازًا للحق والحقيقة، ضدَّ الباطل الكاذب، المقدّس، الذي يفرضه طغاة العالم بالقوة المفرطة.
ما يجري في الجامعات الأميركية وميادين التظاهر في عواصم عديدة، هو ثورة عالمية على التاريخ المزوّر، من شأنها أن تبعث الإنسانية من مرقدها، وتعيد الاعتبار للحق والخير والجمال، وتضع العالم أمام مرآة صادقة، وتسقط الأقنعة عن جبابرة كذّابين وقتلة، لم تهتز ضمائرهم أمام أكثر من 34 ألف شهيد فلسطيني، لكنهم يحتشدون بكلِّ قواهم وإمكانياتهم من أجل تحرير بضع عشرات من أسرى ينتمون إلى معسكر القتلة.